الاتفاقية الأمريكية ـ العراقية

TT

لكي تتضح المواقف العراقية بشكل ادق تجاه الاتفاقية التي ستبرم مع الولايات المتحدة، يجب ان يأخذ السؤال شقين، الموقف من الشق الامني للاتفاقية، والموقف من ضرورة الارتباط بالولايات المتحدة باتفاقية استراتيجية، ففي حين ان هناك رفضا باديا بوضوح للمقترحات الامريكية في الجوانب الامنية والعسكرية، فان ليس هناك ممانعة بل ربما تفضيل او حتى من يجد ضرورة لعقد اتفاقية استراتيجية في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية والتعاون العسكري مع الولايات المتحدة.

مرد الرفض للرؤية الامنية التي قدمت للمفاوضات كونها لا تختلف في جوانبها عن الحالة الراهنة بل هي تكريس لها رغم انه يفترض ابرامها بين بلدين «كاملي السيادة، متساويين ومستقلين»، فهي تستمر باعطاء الجانب الامريكي السلطة على الارض والسماء والمياه العراقية وتمنح الحصانة القانونية لجنودهم والمتعاقدين معهم ولشركاتهم الامنية من المساءلة امام القضاء العراقي، وكما ستسمر لهم الحرية في الاعتقال وشن عمليات الملاحقة للارهاب وحسب تقديرهم، دون ان يكون هنالك بالمقابل التزام واضح يطمئن المخاوف العراقية لجهة الحماية من الاعتداء الخارجي ولجهة حماية النظام الديمقراطي من الانقلاب عليه، فضلاً عما اثارته لدى الجوار المختصم مع الامريكان باحتمال ان يستخدم التواجد الامريكي في العراق كمنصة لضربهم، الا انه على هذه المسائل الاخيرة يرد بان لدى الولايات المتحدة اتفاقيات وضع القوات مع نحو ثمانين دولة حول العالم، وانها لم تخرج عن هذه الاتفاقية لجهة الالتزام بالوقوف ضد المهددات الداخلية والخارجية لذلك فان الامريكان لا يريدون ان يلزموا انفسهم بالدفاع المفتوح عن العراق ضد المهددات بل اكتفوا بنسختهم المقدمة كأساس للتفاوض بانه في حالة وقوع خطر خارجي او داخلي فان الطرفين يتشاوران، هذا على انه يجب ان يكون بينهم رؤية متفقة على ضرورة الاستقرار ومواجهة المخاطر، في حين ان التجارب السابقة تشير واقربها لنا عند دخول العراق الى الكويت فلم تكن هناك اتفاقية دفاع مشترك الا ان ذاك لم يمنع الامريكان من المجيء الى المنطقة والدفاع عن الكويت، وهناك التزام في الورقة المقدمة بان " لاتسعى الولايات المتحدة من اجل استخدام الاراضي العراقية موقعاً تنطلق منه عمليات عدائية ضد دول اخرى» وايضاً انها «لا تطلب من العراق، ولا تريد ان يكون لها فيه قواعد دائمة او وجود عسكري دائم».

فاجماع القوى العراقية على رفض الشق الامني بالصيغة التي قدمت من الجانب الامريكي، يقابله ادراك متسع بانه بسبب عدم صلابة الاوضاع في العراق وهشاشة تجربته السياسية ومهددات الارتداد عليها، وعدم استكمال جاهزية قواته ومخاطر التمدد والنفوذ الاجنبي عليه، بجانب الرغبة بابقاء الاتكاء على قوة كبرى والاستفادة من قدراتها ودعمها في بناء ما تهدم، فضلاً عن الفهم بالمقابل بان الولايات المتحدة هي ليست قوة اغاثة عندما جاءت للعراق بل هي لها مشروعها ومصالحها والتي يجب ان تطمئن، في اطار مصالح مشتركة تضمها اتفاقية طويلة الامد.

وان رأينا اجماعا وطنيا الا ان هذا لا ينفي التباين بين المكونات العراقية لجهة النظر لأهمية العلاقة الاستراتيجية مع الامريكان، فالكرد هم اميل لعقد الاتفاقية، اذ ان الامريكان والقوى الدولية كانوا الضامن لمنطقتهم المحمية منذ العام 1991، وأيضاً هم تواقون لإقامة علاقات تحالف مع القوة الاكبر لموازنة كفة جوارهم، كما هم يتخوفون من انسحاب مبكر تستتبعه مخاطر خارجية وداخلية، فخارجياً يضعهم تحت رحمة جوار اقوياء ممتعضين من تجربتهم، وداخلياً تخوفهم من اعادة مركز قوي في بغداد لا يؤمن وينقض على حقوق حصلوا عليها، او من شيوع فوضى ما بعد الانسحاب والتي من الصعب ان يظلوا بمنأى عنها، اما السنة فان بدوا بأنهم يرفضون الامريكان فإنهم بالنهاية اميل الى القبول لإدراكهم بأنها القوة الوحيدة القادرة على كبح نفوذ الايرانيين خارجياً وان تمنع داخلياً اختلال موازين ينتج عن صراع بين المكونات، كما يرون ان الوجود الامريكي سيكون حاجزاً ضد بروز الاصوليات، سواء كانت سنية ام شيعية، سنية تقضم مجتمعهم من تحت او شيعية تهيمن على السلطة من فوق، اما الشيعة فان اشتركوا في داخلهم مع الاخرين في نظرتهم ولكنهم ولكونهم يحملون عبء الدور الاكبر في العراق فانه تنتابهم الهواجس بان يسجل عليهم بانهم عندما حكموا، فرطوا باستقلال وسيادة العراق، وموقفهم هذا الذي لا يبتعد عن ادراك مخاوف وانشغالات دول الجوار احرجه الدخول الايراني على خط الاتفاقية واظهره كاستجابة لمخاوف ايرانية، والموقف الشيعي كما يمكن ان يستقوي بموقف المرجعية من الاتفاقية فانه لا يستطيع ان يتخطاه وان تعاظمت عليه الضغوط، حيث تصر المرجعية على شرطي، حصول الاجماع الوطني على اقرارها عبر القوى السياسية الممثلة للمكونات وان لا تنخفض الاتفاقية عن سقف المصالح الوطنية.

اما الخيارات المتاحة، فان المفاوض العراقي المختل نفوذاً في كفتي التفاوض يستطيع ان يستقوي بالإجماع الوطني الرافض والموقف الشعبي المتوجس وثبات المرجعية عند سقف وبمخاوف الجوار في تحسين شروط الاتفاقية، وفي حالة تصلب الموقف الامريكي يستطيع ان يشتري الوقت بانتظار ما تسفر عنه الانتخابات الامريكية، وهنا ربما سيذهب الى تمديد التفويض الدولي دورياً لستة أشهر، اذ بالنهاية ان بقاء القوات في العراق لا بد له من تفويض عاجل اما ان يتم عبر الامم المتحدة او السلطة الثنائية اذ يجب ان يتوافر احد هذين الغطاءين لبقاء القوات في العراق.

لكن الغالب ان الادارة الامريكية ستلجأ الى كم من الضغوط من جهة وتخفيض سقف مطالبها من جهة اخرى لإبرام الاتفاقية، لتجنب ان تضع في مهب الريح خسائرها وتضحياتها ومصالحها او تجعل للغير واي غير قطافها.