المعاهدة.. ليتها مثل اليابان!

TT

حدثٌ عراقي آخر يعيد الزمن إلى الوراء ثمانية وسبعين حولاً، حيث الغزو البريطاني، ووزارة المستشارين، وقيام مجلس تأسيسي، وكتابة دستور دائم، والانتداب بقرار أممي، واستبدال الاحتلال بسلسلة من أربع معاهدات كانت خلاصتها (1930). قابل ذلك: غزو أمريكي، ووزارة مجلس الحكم الاستشارية، وانتداب أممي، وكتابة دستور دائم. وها هو النقاش والقبول والاعتراض جارٍ حول معاهدة طويلة الأمد، ويُطرح فيها أسباب الرفض نفسها، التسهيلات العسكرية مع زيادة الأمنية.

إلا أن حدثاً جديداً، لم يكن في الحسبان، وهو دخول إيران الإسلامية في جوهر القضية، بفعلها على الأرض العراقية، ناصحة مُهددة في عدم قبولها. أما الشعراء فلا أثر لهم في معاهدة عصرنا مثلما ضجوا ضد معاهدة ذلك العصر، وكل شاعر يحمل هواجسه. فشعراء العصر لا يمتلكون شعر مديح أو ثلب، ولا تصلح القصيدة الحرة لتثوير الجماهير، مثل القريض، فما تبقى لا يتعدى نظم الخرز، إلا ما ندر، بعد أن خلت النجف منه وهي بستانه!

حتى حوادث السلب والنهب، التي لا يقابل هول بشاعتها ما عَقب فرار الجيش العثماني، لم تنتج قصيدةً، مثلما ألهب المشهد شاعر ذلك الزمان، وقال باسم «ابن ماء السماء»: «ما بال بغداد قد ضاقت بها الحال.. وخف بالأهل منها اليوم ترحال.. للسلب والنهب بين الناس معترك.. لكنَّ قتلاهم في السوق أموال».(عزّ الدين، الشعر العراقي الحديث).

عقد من الزمان (1920 ـ 1930) تقدم فيه العراق كثيراً، ومواجهة مهام نِجارة دولة على أنقاض الخراب، خلا ما حاوله الواليان مدحت باشا (1869 ـ 1872)، وناظم باشا(1910 ـ 1911) من إجراءات حضرية بمفهوم زمانها. في ذلك العقد تأسست حياة برلمانية، وفتحت شوارع عصرية، وأُنيرت المدن بالكهرباء، وبدأ العراقيون يستبدلون الحمير بالسيارات، والقطارات، والبواخر، وعرفوا المتحف والاهتمام بالآثار، والتعليم المدني، بعد أن كان مقتصراً على طائفة اليهود والمسيحيين، وبجهودهم الخاصة. وصادف أن يتولى المُلك رجل حجازي لم يُنافق في مخاطبته لشعب العراق بعبارة: «شعبي الحبيب»، هو فيصل الأول (ت 1936)، وامرأة بريطانية وجدت نفسها تحب العراق، ألا وهي المس بل (ت 1928)، حتى أنها أوصت بأن تدفن في تربته، فذاك قبرها عند كنسية الأرمن بالباب الشرقي. ومن الموثقات: إذا توافر الحب صدقت النوايا!

كانت الثورة تسبق قرارات الحكومة، والانتفاضات متواصلة عند كل معاهدة، وتخوين الساسة أسهل من شربة الماء، حتى قادت عبد المحسن السعدون إلى الانتحار (1929)، وما زال نوري السعيد (قتل 1958)، في الذهنية العامة، عميلاً للإنكليز، وهو ليس كذلك، الأمين على بيت المال، بل يرى مصلحة العراق مع بريطانيا، على صواب كان أو خطأ.

لا بد من تقدير واقع الحال، وهو أن الإنكليز حاربوا العثمانيين ودخلوا العراق عنوة لا صلحاً، فماذا يُعتقد، هل يُصدق خطاب الجنرال مود، بأنه جاء محرراً! وأي غازٍ يكتفي بالتحرير! وهل للعراق التصادم مع بريطانيا العظمى، والعثمانيون لم يتركوا فيه نبض حياة! وهل كان للحكومة العراقية، الضعيفة الجناح، الاحتفاظ بالموَصْل! مثلما ليس لها رد صفقة بريطانيا وإيران على الأهواز (نحو 1925).

لا نتحدث عن وطنية أو عمالة، فليس لأحد تفضيل الاحتلال على الاستقلال إذا كان بأيدٍ أمينة! أما إذا ظل الحال على حد بيت الصافي (ت1977): «والنفط يجري في العراق وما لنا.. ليلاً سوى ضوء النجوم سراج»، فلا يُلام الذين فضلوا احتلال أهل الصناعة والكهرباء والطائرات، والمؤسسات الحديثة، على احتلال الضرائب والمكوس والسخرة. وبهذه الجريرة أشير بالعمالة والانتهازية إلى الزهاوي (ت 1936). بينما أشير إلى غضب الرصافي(ت 1945) ضد الإنكليز وجداً على العثمانيين، فالوجاهة التي كان يجدها باستانبول لم يجدها ببغداد، يُفهم ذلك من من كتابه «الرسالة العراقية».

تكرر المشهد مع الأمريكان، الأكثر شراهة والأقل حكمة: استبدال الدكتاتورية الخانقة باحتلال، مُهد له بحصار أعاد البلاد إلى الفترة المظلة، التي يحسبها المختصون بداية من اجتياح تيمورلنك لبغداد (1401 ميلادية). لم تزحف الجيوش الأمريكية الجرارة في وضح النهار وجوف الليل على بغداد لتقفل حاملةً نعوش أكثر من أربعة آلاف قتيل، ومكتفيةً بآيات الشكر والامتنان والدعاء بسلامة الترحال، إنما أتت لتفرض واقعاً عبر معاهدة توقع صلحاً أو عنوةً! وأقصى الانتصار أن يضمن العراق في بنودها ما ضمنته اليابان من وحدة بلاد وتقدم تكنولوجي هائل، وأراه من واقع الحال، وتزاحم الأهواء، وانشغال الأقطاب بمصالحهم الشخصية، أمنية بعيدة المنال. عود على بدء، لقد مرت الثمانية والسبعون عاماً بين المعاهدتين، وعاد العراق من جديد إلى آلام المخاض، وكأن «لم يسمر بمكة سامر»!

[email protected]