العراق والولايات المتحدة.. الطريق نحو المستقبل

TT

انطلاقاً من تصميمه على تحديد مسار واضح للعلاقات بين الولايات المتحدة والعراق قبل مغادرته منصبه، ألقى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بثقله وراء المفاوضات الجارية حول تحديد الشروط التي تحكم الوجود الأميركي بالبلاد فيما بعد عام 2008.

كان الإطار العام للاتفاق قد تمت صياغته خلال اجتماع عُقد بين بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في نوفمبر (تشرين الثاني) إلا أنه ما تزال هناك مفاوضات مكثفة جارية بهدف الاتفاق على التفاصيل، وهي مفاوضات تعتبر متأخرة بالفعل حالياً بأربعة أشهر عن الجدول المقرر لها.

ومن المعروف أن التفويض الذي خولته الأمم المتحدة لقوات التحالف بقيادة واشنطن داخل العراق ينتهي في وقت لاحق من العام الجاري في وقت يكاد يكون متزامناً مع انتهاء فترة رئاسة بوش. في الوقت ذاته، من الواضح أن القوات الأميركية داخل العراق والبالغ إجمالي عددها 145.000 جندي لن يتم سحبها، بل وليس بمقدورها الانسحاب من العراق بحلول هذا الوقت. ودائماً ما يكون الخروج من قضية ما أصعب من المشاركة فيها، ففي الوقت الذي استغرق فيه حشد القوات الأميركية تأهباً لحرب العراق عام 2003 تسعة شهور، ربما يستغرق سحب القوات ومعداتها الثقيلة ضعف هذه الفترة، شريطة استتباب الأمن في العراق وتعاون حكومته.

يذكر أنه بنقل السيادة إلى العراقيين، منذ قرابة ثلاث سنوات ماضية، لم تعد القوات الأميركية والأخرى التابعة لحلفائها قوات احتلال.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن ماذا سيكون وضع القوات الأميركية عند حلول نهاية العام الحالي؟ يكاد يكون من المؤكد أن بوش لا يرمي لعقد تحالف عسكري رسمي مع بغداد، خاصة أن هذا المقترح الذي يدعمه بعض العراقيين يلقى معارضة من قبل قطاعات مهمة من الرأي العام العراقي. ومن الممكن أن يسفر طرح هذا الاقتراح عن إحداث انقسام في صفوف النخبة السياسية العراقية في وقت تعد البلاد في أمسّ الحاجة إلى ضمان التناغم ووحدة الصف. على أية حال، من غير المحتمل أن يقر مجلس الشيوخ الأميركي الذي يسيطر عليه الديمقراطيون اتفاقا عسكريا اضطلع بوش بالتفاوض بشأنه. وبذلك يتضح أن صيحات الاستنكار الصاخبة لإمكانية ضم بغداد في شبكة من التحالفات العسكرية، بما يحمل بعض الشبه مع حلف بغداد المثير للجدل الذي سبق إقراره في خمسينيات القرن المنصرم، غير مبررة.

خلال السنوات الأخيرة تحرك الفكر الدفاعي الأميركي بعيداً عن التحالفات طويلة الأمد في اتجاه ما يُعرف باسم تحالف الدول الراغبة، وهو عبارة عن ترتيبات يجري اتخاذها مع الدول الأجنبية في مواقف معينة على أساس كل حالة على حدة. حالياً، ترتبط واشنطن بتحالفات رسمية مع 26 دولة، جميعها أعضاء في حلف الناتو، علاوة على ترتيبات خاصة للتعاون العسكري مع ما يزيد على 120 دولة أخرى. في الواقع، من بين إجمالي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الـ193، هناك 131 دولة منها إما حليفة رسمية لواشنطن أو مرتبطة معها باتفاق عسكري.

ومن بين الحجج التي يسوقها مؤيدو فكرة ضرورة مغادرة القوات الأميركية العراق في أقرب وقت ممكن، وبالتالي تركه عرضة لتهديد أعدائه، أن الوجود الأميركي بالعراق قد يقوض سيادته.

بيد أنه على أرض الواقع تستضيف ثلثا الدول الأعضاء بالأمم المتحدة عسكريين أميركيين، وإن كان بأعداد متباينة. وبصورة عامة، تحتفظ واشنطن بما يزيد على 700 قاعدة كاملة وأكثر من 3000 منشأة عسكرية بمختلف أنحاء العالم. وتتضمن المجموعة الأخيرة المئات مما يطلق عليها الورق الطافي، وهي مؤسسات عسكرية من الممكن تحويلها بسرعة إلى قواعد عاملة يمكن استخدامها حال اندلاع حرب.

ولا تشعر أي من الدول التي تحتفظ واشنطن بقواعد أو منشآت عسكرية أخرى داخلها، من المملكة المتحدة إلى اليابان مروراً بألمانيا وتركيا، بأن سيادتها باتت مقوضة. بل وتنظر بعض الدول، مثل تايوان وكوريا الجنوبية، إلى الوجود الأميركي باعتباره عامل ضمان ضد جيرانها الخطرين.

من ناحيتها، تناضل كوسوفو، أحدث الدول القومية على مستوى العالم، بقوة من أجل إقناع الأميركيين بالبقاء داخل أراضيها كضامن يحمي لها استقلالها.

على كل الأحوال، من الواضح أن الفكر الاستراتيجي الأميركي تحول خلال السنوات الأخيرة بعيداً عن مسألة بناء قواعد ثابتة بدول أجنبية. وبدأ بالفعل عام 2002 برنامج لإغلاق القواعد، يتضمن تفكيك ما يزيد على 100 قاعدة، معظمها في أوروبا وآسيا.

والتساؤل الذي قد يطرحه البعض الآن هو لماذا يحاول الأميركيون الاحتفاظ ببعض القواعد داخل العراق؟ عام 2004، وصل إجمالي عدد القواعد الأميركية من جميع الأنماط والأحجام داخل العراق إلى قرابة 200 قاعدة. وبعد مرور عام، تراجع الرقم إلى 105، نتيجة تنفيذ برنامج يرمي إلى تسليم المهام والمنشآت العسكرية إلى الجيش العراقي الجديد. ومنذ ذلك الحين، تم نقل 28 قاعدة أخرى إلى السيطرة العراقية، إضافة إلى 10 من مجمل 22 قصراً كانت تخص صدام حسين. بالنظر إلى الوضع الراهن، يبدو أن واشنطن تخطط لتقليص عدد قواعدها داخل العراق بصورة أكبر، وربما ينتهي الحال بسيطرتها على 4 قواعد فقط بحلول عام 2010. وتتمثل أكبر هذه القواعد في كامب فيكتوري، وهي قاعدة متعددة الأغراض تقع بالقرب من مطار بغداد. وقد تم بناؤها بناءً على أحدث طراز وزُودت بمعدات حديثة للغاية. وبصورة عامة، يمكن القول إن القواعد الثلاث الأخرى، وهي التليل، جنوب بغداد، والأسد، في إقليم الأنبار، والقيارة بالقرب من مدينة أربيل شمال شرق البلاد، تقوم بمهام تكميلية لكامب فيكتوري. ومن المقرر الاعتماد على القوات الأميركية في حماية 12 محطة تعزيز ودعم لنظام الاتصالات المعقد المعتمد على موجات الميكروويف في وسط العراق لبعض الوقت.

ويتمتع القادة العراقيون المنتخبون بحرية إصدار قرار بشأن ما إذا كانوا ما زالوا يحتاجون إلى الوجود العسكري الأميركي كبطاقة تأمين ضد الأخطار التي تواجهها البلاد. وإذا كان هؤلاء القادة على قناعة بهذا الأمر، فعليهم التصريح بذلك علانية وبقوة. وينبغي إطلاع الشعب العراقي بشكل كامل على مضمون المفاوضات الجارية. وينبغي كذلك تذكيرهم بأن الولايات المتحدة لم تحاول قط فرض وجودها العسكري على دول مضيفة غير راغبة فيه.

يذكر تاريخياً أنه عندما طلب الجنرال شارل ديغول من الأميركيين إغلاق قواعدهم بفرنسا والرحيل، سارعت واشنطن بتنفيذ ذلك بأقصى سرعة، رغم أن سحب عشرات الآلاف من الأفراد انطوى على مسائل لوجستية معقدة.

عام 1969، طالب العقيد معمر القذافي بإغلاق واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأميركية بمنطقة حوض البحر المتوسط، وهي قاعدة ويلوس. ومرة أخرى، التزم الأميركيون بتنفيذ مطلب الرحيل، رغم عزم الليبيين على تسليم القاعدة إلى السوفيات. ومنذ ذلك الحين، طالبت كل من الفلبين (1999) والسعودية (2002) وأوزبكستان (2006) بأن تغلق الولايات المتحدة منشآتها العسكرية على أراضيها وتسحب أفرادها من البلاد. وفي جميع هذه الحالات، التزمت واشنطن بتنفيذ المطالب الموجهة إليها.

في الواقع، إن الاعتقاد بإمكانية أن تفرض واشنطن قواعد عسكرية دائمة في العراق ضد رغبة الشعب العراقي يعد ضرباً من ضروب الخيال، على أقل تقدير. وفي جميع الحالات، تنتفع واشنطن بالقواعد العسكرية من خلال استئجارها لها لفترة زمنية محددة، قابلة للتجديد بناءً على الاتفاق المتبادل بين الطرفين.

إن ما يتعين على العراق القلق بشأنه بالفعل ليس القواعد العسكرية التي على كل الأحوال لن تكون سوى مؤقتة، وإنما الأهم من ذلك بكثير الدور الذي تنوي واشنطن الاضطلاع به في إطار الحياة السياسية العراقية. حتى الآن، عملت واشنطن كشريك كامل في كافة القرارات الكبرى تقريباً التي اتخذتها القيادة العراقية الجديدة. كما عملت كوسيط بين مجموعة متنوعة من الجماعات والفرق السياسية العراقية. إلا أن الولايات المتحدة ليس باستطاعتها، بل ولا ينبغي عليها، الاستمرار في الاضطلاع بهذين الدورين خلال فترة ما بعد الانتخابات العامة العراقية المقبلة، ذلك أن العراق الجديد يجب أن يتخذ قراراته بنفسه ويعتمد على ذاته في تنمية آليات تسوية الصراعات الطائفية والسياسية، بمعنى أن المشكلة لا يمكن تسويتها من خلال إبداء التأهب للصراع وترديد شعارات جوفاء في وقت تتهيأ البلاد لدخول فترة انتقالية حرجة من تاريخها.