مصر وحكاية «رغيف العيش»: من هدية الملك فهد إلى الزرع في السودان

TT

هنالك إجماع في اوساط اهل الخبرة على ان الجوع آت وان مشهد الأبدان الضامرة في بعض الدول الافريقية سيتكرر في دول كثيرة وربما خلال ربع قرن. وإلى الجوع هنالك احتمال قوي بأزمة عطش ايضاً كون حل مشكلة الغذاء بالزراعة سيتسبب في ازمة مياه. ولقد اكدت ازمة خبز هنا وأزمة أرز هناك ثم الارقام التي تزامن الكشف عنها مع انعقاد «قمة الغذاء» التي استضافتها روما يوم الخميس 4 حزيران (يونيو) 2008 ان رقم الجياع في العالم الى ازدياد.

وبالنسبة الى دولة مثل مصر فإنها ربما تكون الاولى التي يطرق الجوع بابها في حال لم يحدث حل ظاهرة التناسل النشيطة التي توارتثها كمشكلة بالغة الخطورة مصر السادات عن مصر عبد الناصر لتجد مصر حسني مبارك نفسها مذعورة من حجمها. وعندما يقف الرئيس مبارك يوم الاثنين 9ـ6ـ2008 خطيباً في افتتاح «المؤتمر القومي الثاني للسكان» طارحاً ارقاماً مذهلة حول مشكلة التناسل فهذا يعني ان الرئيس المصري يستبق الهلع الذي سيكون عليه المشهد المصري خلال اربعة عقود يكون فيها حسب الاحصاءات الدقيقة المتوفرة لديه عدد سكان مصر عام 2050 حوالى 160 مليون نسمة ما دام يولد طفل كل 23 ثانية وما دامت النسبة على ازدياد سنة بعد اخرى نتيجة فقدان التوعية المطلوبة وبسببها غدت مصر تحتل المرتبة السادسة عشرة بين الدول الاكثر كثافة على مستوى العالم.

تزامنت تحذيرات مبارك من الـ«تسونامي البشرية» التي هي على موعد مع مصر خلال اربعة عقود يصبح فيها عدد سكان مصر مئة وستين مليون نسمة اي ضعف عدد السكان الحالي، مع تقديرات في شأن ازمة الغذاء على المستوى العالمي وايضاً ومع ازمة خبز طاحنة عاشتها مصر ووصلت الى حد الطلب من قوات الامن التدخل لمحاصرة التداعيات الاحتجاجية الناتجة عن الازمة المستمرة الى الآن وبسببها بدأ الحديث يتزايد في شأن استباق موجات الجوع الآتي سنة بعد اخرى طارقاً باب مصر وبوابات دول اخرى، وذلك بزرع القمح في مساحات شاسعة من اراضي السودان.

وحيث أنني متابع لتداعيات وعكة عابرة اصابت العلاقات السعودية ـ المصرية في النصف الاول من العام 1987، ثم جاء القمح السعودي هدية الملك فهد بن عبد العزيز رحمة الله عليه للشعب المصري والكلام المداوي للامير سلمان بن عبد العزيز بعد افتتاحه في القاهرة يوم 17 يوليو (تموز) من العام نفسه يشكِّلان لحظة لهفة سعودية نحو الشعب الشقيق...

وحيث اننا عشنا منذ اسابيع مع اخواننا ابناء مصر المحروسة ازمة تمحورت حول الرغيف وإحياء فكرة زرع القمح لحساب مصر في السودان...

فإنني من باب التنوير لقارئ اقتحمت ذاكرته ويلات اكبر فلم يعد القمح وازمة الرغيف حاضرة في البال وقارئ من جيل الشباب لم يعايش معنى بادرة الملك فهد طيَّب الله ثراه وحيثيات الامير سلمان اطال الله عمره لتلك البادرة، اعرض كمتابع عايش باهتمام تلك الايام القمحية الخوالي وقائع البادرة كمدخل للحديث عن إحياء فكرة زرع القمح لحساب مصر في ارض السودان بعدما بدأت ازمة الرغيف تقرع كالطبول وتبعث الخشية من اختلاط الحابل الرغيفي بالنابل السياسي الحزبي وبذلك قد تهتز اسس البنيان العربي الشامخ الذي اسمه مصر.

في البداية وحرصاً من المملكة في ضوء وصية الوالد المؤسس الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه على ان تكون مصر والسعودية مثل جناحيْ طائرة اذا جاز التوصيف، وعلى خلفية سحابة التوعك في العلاقة وما رافقها زمنذاك من كلام غير مستحب التقى الامير سلمان بن عبد العزيز في باريس بالرئيس حسني مبارك الذي كان في زيارة رسمية لها. ولقد سمعنا من الامير بعد لقائه بالرئيس المصري كلاماً في منتهى الدفء عن مصر. كما ان ارتياحاً نوعياً لاحظناه لدى استفسارنا من المحيطين بالرئيس مبارك لما سمعه من امير الرياض الذي ابلغه ان معرض «الرياض بين اليوم والأمس» الذي افتتحه في باريس سيحمل بعد الآن تسمية «المملكة العربية السعودية بين اليوم والأمس» وان دورته الاولى بهذه التسمية ستكون في القاهرة يوم الجمعة 17 يوليو (تموز) 1987 وانها ستكون بما معناه نقطة البداية للعبور المتبادَل بين مصر والسعودية. والعبور هنا بمعنى العمل على عودة الجامعة العربية الى القاهرة من تونس واستعادة الحضور المصري الذي غيَّبته قرارات قمة بغداد التأديبية رداً على زيارة الرئيس السادات الى القدس وانفراده بمحاولة تطبيع للعلاقات مع اسرائيل برعاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر.

في القاهرة استكمل الامير سلمان ما بدأه في باريس مع الرئيس مبارك. وقبل وصوله اليها لافتتاح المعرض كان الملك فهد سجل وقفة ترمز الى النخوة تمثلت بإرسال هدية من القمح الى مصر مرفقة ببرقية نشرتها وسائل الإعلام السعودية بالنص الآتي: «صاحب الفخامة الأخ الرئيس حسني مبارك حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحية اخوية مقرونة بأطيب التمنيات، وبعد. بمناسبة انتهاء الموسم الزراعي في المملكة العربية السعودية لهذا العام يسرني ان أقدِّم نيابة عن شعب المملكة العربية السعودية لجمهورية مصر العربية مائتي الف طن من القمح السعودي وهي هدية رمزية تعبِّر عما تكنه المملكة العربية السعودية من تقدير واحترام لجمهورية مصر العربية بقيادتكم الحكيمة. ودمتم في حفظ الله. فهد بن عبد العزيز».

كانت هذه الهدية من حيث معناها بأهمية معنى تزويد مصر بمستلزمات يحتاجها جيشها لصد العدوان الاسرائيلي في الزمن الذي سبق حرب رمضان (اكتوبر) 1973، وكان السخاء السعودي زمنذاك لهذا الواجب في ذروته، فضلاً عن ان الهدية هي نوع من تباهي الملك فهد بالجائزة التقديرية في الاكتفاء الذاتي من المنظمة الدولية للأغذية والزراعة (الفاو) حيث بلغ محصول المملكة من القمح المحلي في العام 1985 مليوناً وثلاثمائة ألف طن منها 1500 طن احتياطي.

وعزز معنى الهدية الامير سلمان الذي ضاعف في القاهرة مدة اقامته فيها بينما لم يفعل ذلك خلال دورات المعرض في كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا. وأراد من البقاء 12 يوماً في القاهرة الإيحاء بأن مصر في البال وفي الوجدان، ثم أضفى بجوابه عن سؤال طرحناه عليه لدى وصوله الى القاهرة حول الهدية القمحية، المزيد من التقدير وبكلمات بعيدة عن المجاملة حيث قال ما يريد والده المغفور له الملك عبد العزيز أن يقوله ابناؤه عن مصر «إن الشعب المصري في مقدمة الشعوب العربية وإنه من الواجب اعترافاً بدور الشعب المصري ومساهمته الفعالة في إمداد السعودية بالخبرة والأيدي العاملة في كل المجالات، ان يرى الشعب المصري بنفسه انجازات شقيقه الشعب السعودي...». اما الرئيس مبارك، وأيضاً بأسلوب ما قل ودل، فإنه طوى صفحة التوعك العابرة في العلاقات بالقول بعدما تحادث مطولاً مع الامير سلمان: «إن العلاقات بين مصر والسعودية علاقات طبيعية اصيلة وجذورها قوية. وطوال عمرنا نتعامل، والسفراء موجودون، نروح ونجيء... والسفير ربما لا يعرف».

عند التأمل في السنوات التي تلت ذلك وصولاً الى ما هو حاصل من ود وتفاهم وتنسيق بين الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس مبارك ربطاً بوصية الملك المؤسس لأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، وحرص رؤساء مصر عبد الناصر والسادات ومبارك، نفهم كيف ان التوعك يتراجع على قاعدة حُسن النية والاعتراف المتبادَل بالجمائل مدِّرسين وعمالاً كانت او اطناناً من القمح جاءت وكأنما هي باقة من الورد إيذاناً بالتعافي المتواصل في العلاقة.

وفي هذه الايام حيث دخل العالم حقبة الأزمة الغذائية ويتلازم ذلك مع ارتفاع مذهل في سعر برميل النفط تجاوز الـ 125 دولاراً للبرميل ويريده الرئيس الايراني المفعم حماسة نووية محمود احمدي نجاد أعلى وأعلى، تتصدر مشكلة القمح والارز حقبة الأزمة الغذائية وترى مصر التي اصبح «لا صوت يعلو على صوت رغيف العيش» كما شعار اواخر الحقبة الستينية «لا صوت يعلو على صوت المعركة» هو الاساس بأهمية اي قضية اخرى، أخرج اهل الحكم المصري من ملف تراكَمَ عليه الغبار والتردد ويتعلق بالتكامل مع السودان ليأخذوا منه نقطة من عشرات النقاط التي تتعلق بهذا التكامل الذي طالما صال حكام البلدين وجالوا حوله واتفقوا على اهميته وكادوا ايام صفاء النوايا بين الرئيسين انور السادات رحمة الله عليه وجعفر نميري اطال الله عمره، وفي زمن كان عدد سكان مصر خمسين مليوناً وعدد سكان السودان عشرين مليونا،ً يحوِّلون التكامل الى امر واقع. بل ان السادات وعد نميري بميناء للسودان على المتوسط بين مطروح والاسكندرية.

مع الأسف لم يتم شيء من ذلك ابداً. وها هي الضائقة الرغيفية تعصف بمصر التي طالما صدحت منها حول القمح حنجرة الموسيقار محمد عبد الوهاب «القمح الليلة عيده... يا رب تبارك وتزيده» والتي وصل عدد سكانها الى ثمانين مليوناً فتُقرِّر وبعدما كان عدد سكان السودان وصل الى اكثر من ثلاثين مليوناً وفق إحصاءات غير دقيقة يعمل الحكم السوداني الآن مع شريكه الجنوبي على جعلها دقيقة وثابتة، حل المشكلة عن طريق زراعة القمح في عشرات الوف الفدادين من ارض السودان. وتزامنَ مع هذه الرغبة الملحة من جانب مصر تفكير حكومات خليجية باعتماد الحل نفسه خصوصاً ان رقم المساحات القابلة للاستصلاح والزراعة وسرعة الانتاج تتجاوز 200 مليون فدان. وللمرء أن يتصور المساحة عندما نضرب 200 مليون باربعة آلاف هي مساحة الفدان الواحد بالأمتار المربعة. كما للمرء أن يأسف عندما يرى ان السودان هو الآخر يستورد سنوياً ثلاثة ملايين طن قمح ومصر ثمانية ملايين طن. وهكذا تكون الحال كما قول الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول

هذه المساحة الهائلة وتلك الازمة المعيشية المتفاقمة خير مناسبة لإخواننا اهل الحكم السوداني لكي يعيدوا النظر في «إنقاذهم السياسي الحزبي» ليصبح «الإنقاذ المعيشي الاستثماري» وهذا يعني ان تنشأ حكومة تمثل كل الأطياف السياسية في السودان برموز تكنوقراط قادرة على جعل الدول التي تخشى من عدم الاستقرار في السودان نتيجة الصراعات والتفرد وتهميش طرف يحكم لأطراف فاعلة في المجتمع السوداني تطمئن وتقتنع فتستثمر. وليكن في ضوء ذلك شعار «اطمئن انت تزرع في السودان» كما شعار «ابتسم انت في الشارقة» وشعار «ماذا تنتظر لتستثمر في لبنان وفلسطين»، وبعد أن يطوي «حزب الله» ورقة التمسك بالسلاح وتطوي «حماس» الورقة الغزاوية وبالتالي يصبح لبنان المبتلى بصراعات لا معنى لها ومعه فلسطين التي استقر الأمر الدولي على قيامها دولتين محايدتين لا علاقة لهما بالبدعة الثورية التي ورطت الشعوب بقضايا انتهت الى ان هذه، اي الشعوب، شعباً بعد آخر على أهبة ان يشتهي «رغيف العيش».