في أوروبا.. انزلاق إلى اللاعقلانية

TT

منذ نحو عامين، نشر الكاتب والمفكر البريطاني مارك ليونارد كتابا بعنوان: «لماذا ستقود أوروبا القرن الـ21». واليوم، يتساءل المرء عما إذا كانت أوروبا سوف تشارك في قيادة القرن الـ21. وليس الأمر متعلقا بتلك الضربة القاضية التي تمثلت في رفض آيرلندا معاهدة لشبونة التي تعيد تنظيم الاتحاد الأوروبي فقط. لقد قضيت ستة من الأعوام الثمانية السابقة في عاصمة الاتحاد الأوروبي. وقد لاحظت خلال هذه الفترة النقص المتزايد في الثقة بأوروبا، ولا شك أن ذلك يمثل تراجعا وتشاؤما بمستقبل هذه القارة.

ومع الاهتمام بمتاعب الاقتصاد الأميركي، فإن القليل من الأوروبيين يشعرون بأنهم على وشك الحصول على إرث العالم. فالاقتصاد الألماني يزدهر في هذه الأيام لكن ذلك يعتبر استثناء، حتى إن الألمان يخشون أن يكون ذلك الأمر مؤقتا فقط. والأوروبيون السعداء يشعرون بذلك لضعف الدولار وارتفاع اليورو، وتزول مخاوفهم من أن عمالقة آسيا سوف يهزمون أوروبا في عالم الاقتصاد الدولي. وكذلك فإن جارة أوروبا الكبيرة تثير الذعر. ففي كل يوم يطالب مسؤول أوروبي بسياسة طاقة مشتركة لمجابهة المحتكرين الروس، لكن الروس يعقدون صفقة جديدة كل يوم ويفضلون بعض المصالح على بعض. فالأوروبيون يشعرون بالقلق إزاء مشكلات الهجرة والهوية القومية أكثر من الوقت الذي وصلت فيه إلى هنا. وفي معظم الانتخابات الأوروبية حاليا نجد مواضيع تتعلق بالهجرة والتكامل، ومعظم الأفراد الذين تحدثت إليهم يشكون من أن أوروبا ستكون قادرة على دمج المهاجرين الجدد داخل نسيجها الاجتماعي. حتى العلمانيين يشعرون بالقلق مما يسمونه أوروبا «المسيحية» وضعفها في مواجهة المد الإسلامي والثقافة الإسلامية. ومن هنا كانت هذه الصرخة المدوية عندما أعلن أسقف كانتربري عن اقتراحه المتواضع بتطبيق بعض أحكام الشريعة في بريطانيا.

ومن المثير للدهشة ذلك التحدي المستمر للاتحاد الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي يبقى مؤسسة شبه معجزة ولا يجب أن يراهن أحد على استمراره.

وهناك شبه إجماع على أن أوروبا تفتقد إلى القيادة القوية. فغوردون براون يُنظر إليه على أنه شخصية ضعيفة. كما أن أنجيلا ميركل محصورة في تحالفها الكبير. والعديد من الأميركيين والإيطاليين مثل سيلفيو برلسكوني منفتحون على التعاون الأوروبي. وعندما أشير إلى القيادة الجديدة المتمثلة في نيكولا ساركوزي، خارج إطار فرنسا، فإنني لا أجد غير الصمت والتقطيب. وفي بريطانيا وألمانيا، ينظر إلى ساركوزي على أنه قائد فرنسي وليس قائدا أوروبيا. والاعتقاد السائد هو أن المصالح الشخصية تغلب على المصالح المشتركة.

وكان من المفترض أن تحل معاهدة لشبونة بعضا من المشاكل التي تواجهها أوروبا، حيث كان من المفترض أن يتم انتخاب قائدين لتمثيل أوروبا على المسرح العالمي: رئيس ووزير خارجية. وقد أذيعت أسماء عديدة مثل توني بلير وكارل بيلدت، حيث كان من المفترض كذلك أن تضطلع أوروبا بدور أقوى وسط دول العالم. وبالنسبة للمتحمسين لأوروبا الموحدة، فإن الدستور الجديد كان هو العلاج لمرض أوروبا وهو الخطوة التالية نحو قيادة العالم. ولكن ما الحال إذاً وقد ماتت هذه المعاهدة؟

وكل ذلك يمثل أخبارا سيئة للولايات المتحدة. ففي عالم تظهر فيه العديد من القوى الناشئة فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى ديمقراطيات أخرى لتساعدها في قيادة العالم. فمن مصلحة الولايات المتحدة أن تكون أوروبا مستقلة وقوية وموحدة حتى إذا لم نكن متفقين في بعض الأحيان. وأنا أفضل أن أرى أوروبا تقود العالم في القرن الـ21 على أن يقوده أمثال فلاديمير بوتين أو هو جينتاو.

وتكمن خطورة الضربة الأخيرة لثقة أوروبا في أن حلفاءنا، بما في ذلك بريطانيا، يمكن أن تفرقهم الظروف الدولية. وهناك أصوات في لندن ترحب بذلك. ويعتقد غيدون راشمان من صحيفة الـ«فاينانشال تايمز» بأن الأكثرية في أوروبا، إذا لم يكن قادتها، يفضلون عدم الاتحاد، وأنهم محقون في ذلك. وأصحاب وجهة النظر هذه يعتقدون أن ذلك أفضل من القيام بمثل ما تقوم به الولايات المتحدة مع وجود هذه المسؤوليات العالمية التي تضطلع بها. ويكتب غيدون راشمان: «هناك مسؤوليات كبيرة على الدول العظمى وذلك يكلفها الكثير. وأوروبا تفضل ألا تكون كذلك».

ولا شك أن راشمان على صواب فيما يتعلق بأن العديد يفضلون أوروبا بهذه الصورة. وربما أوروبا الحالية ـ التي تفتقد إلى القادة والمعاهدة الجديدة ـ هي ما يفضله الأوروبيون أنفسهم. وإذا كان الأمر كذلك، فربما يحمل القرن الـ21، الذي لن تقوده أوروبا، بعض المفاجآت للولايات المتحدة.

* زميل في صندوق مارشال الألماني وزميل أول في معهد كارنيجي

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»