من إيران إلى فلسطين.. هل يدرك قادة عرب هذه (المتغيرات)؟

TT

باستثناء المعتقد الأسمى.. ووجود الدولة وسيادتها.. والأمن الوطني.. والحفاظ على مصالح الناس ومنافعهم ـ التي لا تقوم حياتهم إلا بها ـ باستثناء ذلك: ليس هناك (يقينيات) في السياسة، إذ من طبيعة السياسة الناجحة أو من تعريفها ـ أنها هي (مرونة الحركة والموقف)، أو هي (فن التلوّن) الذي معناه ـ بصيغة أخرى ـ (القدرة الفائقة المتجددة على التكيف مع ما هو متغير مما لا يتناقض مع الأسس الأربعة الآنفة).

والخيبة السياسية التامة: أن يجمد السياسي على أساليب ومواقف معينة وهو يخدم الحقائق الثابتة.. وأجمد من الجمود: أن يمنح السياسي الخائب الأساليب التي يجب أن تتطور باستمرار: أن يمنحها صفة أو درجة (اليقين). وكأيٍّ من سياسي فعل ذلك فباء بالخسران: الذاتي والوطني.

ومن الجمود المعطل لكل نجاح سياسي: إغماض العينين عن (المتغيرات السياسية) أو الاستراتيجية، سواء نتج هذا العمل عن الجهل المطبق، أو عن (الاستيعاب الناقص) للأحداث والمواقف، أو عن القراءة الخاطئة للمعلومات والوقائع.

ولا قيمة سياسية كبيرة وناجعة لـ (التنظير): المعزول عن الواقع السياسي الحي الذي يمور به الميدان مورا، لذا ينبغي أن يستمد التنظيرُ من هذا الواقع: حجته وجاذبيته وفاعليته. ومن هنا، فإننا نبرهن على التنظير السابق بالواقع أو الوقائع التالية:

كان المشهد العام (الظاهري) في المنطقة: أن ايران والغرب عدوان دائمان بإطلاق، أو هكذا صور الحالة: الإعلامُ السياسي الجاهل، أو الخبيث، أو الذي يتعمد أن يجعل من أمانيه (وقائع سياسية) يغذي بها الرأي العام!.. وبناء على هذا المشهد دقت طبول الحرب ضد ايران أكثر من مرة.. وكان المشهد ـ من زاوية أخرى ـ أن سوريا واسرائيل تتأهبان لخوض حرب مريرة تبدل الأحوال في هذه المنطقة تبديلا.. وكان المشهد: أن حماس واسرائيل يستحيل أن يتفاوضا فضلا عن أن يسفر هذا التفاوض تهدئة أو هدنة.. ومما يستدعي التنبه: ان هذه الاستحالة تبدت على ألسنة عدد من قادة حماس واسرائيل!

فهل هذه المشاهد لا تزال (ثابتة) على المسرح؟.. لا.. بدليل (المتغيرات) في الحالات الثلاث:

1 ـ تقدمت الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد المانيا والاتحاد الأوربي بمنظومة من (الحوافز) التي قد (تلين) موقف ايران فيما يتعلق ببرنامجها النووي.. وقصة الحوافز ليست جديدة، وإنما الجديد فيها هو ما يمكن تسميته ـ حقيقة لا مجازا ـ بـ (المكاسب الاستراتيجية الدولية التاريخية) لإيران.. ومن توهم ان في التعبير مبالغة فليقرأ ـ معنا ـ بنودا وفقرات من (وثيقة الحوافز) ـ وهي وثيقة كشف عنها الأمريكيون أنفسهم في البدء ـ.. تؤكد هذه الوثيقة: أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، والمانيا، والاتحاد الأوربي أولا: تبدي استعدادها للاعتراف بحق ايران في تطوير أبحاث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية لغايات سلمية.. ثانيا: تقدم هذه الدول ثمانية مجالات ممكنة للتعاون مع ايران ومن هذه المجالات أ ـ في مجال الطاقة النووية: تقديم المساعدة المالية «!!» والتقنية «!!» اللازمة للاستخدام السلمي للطاقة النووية.. والمساعدة في بناء مفاعلات تعمل بالمياه الخفيفة تعتمد على التكنولوجيا المتطورة. ب ـ في مجال السياسة: دعم إيران للقيام بدور فاعل ومهم في الشؤون الدولية «!!».. ودعم مؤتمر حول القضايا الأمنية والإقليمية تشارك فيه ايران.. التعاون مع ايران بشأن أفغانستان «!!» خصوصا في ميدان حماية الحدود المشتركة بين ايران وافغانستان ودعم اعمار افغانستان ومكافحة المخدرات.. تعزيز علاقات الثقة المتبادلة بين ايران ودول مجلس الأمن زائد المانيا ودول الاتحاد الأوربي.. تشجيع الاتصالات والحوار المباشر مع ايران بما في ذلك الحوار المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية.. إنشاء آلية مناسبة للتشاور والتعاون جـ ـ في المجال الاقتصادي: مساعدة ايران على تطبيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع بقية دول العالم والعمل على عودتها الكاملة الى المنظمات الدولية ومن بينها منظمة التجارة العالمية.. إقامة شراكة مع ايران في قطاع الطاقة.. مساعدة ايران على التنمية الزراعية لتأمين الاكتفاء الذاتي الغذائي لايران «!!» عبر التعاون في ميادين التقنيات الحديثة د ـ في مجال القضايا الانسانية والاجتماعية: مساعدة ايران في التأهيل في حقول عديدة من بينها: الهندسة المدنية والزراعية والبيئية.. التعاون مع ايران على تطوير قدراتها في مواجهة حالات الطوارئ مثل: الابحاث المتعلقة بالزلازل أو توقع حدوث كوارث طبيعية.

وأول مفهوم استراتيجي كبير في هذه (الخدمة الاستراتيجية الغربية) لايران: مفهوم (البصمة الإيرانية) الواضحة وهي بصمة تتوكد في الاصرار الايراني على (الاعتراف الغربي الموثق أو المكتوب بدورها الاقليمي والدولي). فهذا مطلب ايراني ثابت ومطرد عبر كل العصور، ومن خلال الأنظمة السياسية التي حكمت ايران مذ كانت ايران.. يلحق بهذا المطلب الأساس: مطلب آخر يرفده وهو: حرص ايران اليوم على الاعتراف الغربي المكتوب أو المقنن بحق ايران في (امتلاك الطاقة النووية السلمية بصورة كاملة).. وقد كان.. لقد حققت ايران ما تريد تقريبا، ولكن مقابل ماذا؟.. مقابل ما يخدمها أيضا ـ في التحليل النهائي ـ، فقد قدمت ايران الى المجتمع الدولي: المقترح الآتي وهو: تكوين (كونسورتيوم) ـ ايراني ـ عربي ـ غربي ـ بمشاركة شركات أمريكية «!!» لتخصيب اليورانيوم في ايران ثم تسويقه على مستوى عالمي وذلك من أجل تعزيز الثقة بنية إيران!! (إيران لا تزال تناور، بيد أن تسريبات إيرانية ترهص بقبول النقط الجوهرية في المقترحات الدولية)، فهل يدرك قادة عرب هذا (المتغير الضخم) على الجبهة الايرانية؟

2 ـ وانخرطت سوريا في محادثات مع اسرائيل عبر الوسيط التركي، ويبدو ان هناك (إرادة جادة) ـ من الطرفين ـ للتوصل الى تسوية، ويلحق بهذا: متغير تعزيز العلاقات بين سوريا وفرنسا، والتفاهم الثنائي على ملفات عديدة منها الملف اللبناني.

فهل يُفهم هذا المتغير المثير كما ينبغي أن يفهم؟

3 ـ وفي المشهد الفلسطيني: حدث ما كان يُعد مستحيلا، حدث أن جرت مفاوضات بين حماس واسرائيل باشراف مصري، وتمخضت المحادثات عن اتفاق التهدئة أو الهدنة بما يتضمنه من وقف لاطلاق النار، وتبادل الأسرى، وفتح معابر الخ.. ومن الدلالات السياسية لهذا المتغير الكبير: دلالة: (الاعتراف المتبادل) بين حماس واسرائيل، فالأخيرة (اعترفت) بحماس كطرف مفاوض على حين أقسم قادة اسرائيل بكل ما لديهم من مقدسات بأن حماس منظمة ارهابية ولن (ينجسوا) ألسنتهم بالاعتراف بها في يوم من الأيام!.. في الطرف الآخر: اعترفت حماس باسرائيل، وإلا كيف تفاوض حماس كائنا غير موجود؟! على حين كان قادة في حماس يصرحون بأن هذا الاعتراف نوع من الانتحار السياسي!.

وينشأ ـ هاهنا ـ سؤالان واجبان:

أ ـ هل كانت هذه (المتغيرات) مفاجئة؟.. ساذج من يجيب بنعم عن هذا السؤال.. ومصدر سذاجته هو: انحصار رؤيته فيما كان يطفو على السطح من مظاهر وقرائن، أي بناء مواقف سياسية (جامدة) على (الظاهر السياسي والإعلامي)، ومما هو أسوأ من هذه (الخدعة المسرحية): الظن بأن هذه المشاهد الظاهرة ستدوم.

ب ـ السؤال الثاني: ما العمل؟.. ان الهجرة من الإقليم نزوع غير محترم، وغير ممكن ـ كذلك ـ.. وفي ظل استحالة الهجرة العربية الجماعية من الاقليم، فإن المخارج البديلة المتاحة هي أولا: التحرر الناجز من (ربقة الجمود) ـ ولا سيما في مجال السياسة الخارجية ـ: تحررا مقترنا بالتأهب العالي للتعامل مع (المتغيرات) المتلاحقة.

ثانيا: كف الذات ـ الى درجة القسوة ـ عن (السذاجة السياسية) التي تبني المواقف على (المعلن) من الأمور، فكثيرا ما يكون المعلن غطاء لنقيضه!

ثالثا: تبدو ساحة المنطقة في صورة مسرح فوقه لاعبان ـ فحسب ـ: ايران والغرب، على حين أن اللعبة ستنزل بغير اللاعبين أشد الأضرار السياسية والأمنية والاقتصادية.

رابعا: لا خيار أمام هؤلاء (المتفرجين) إلا أن يوقفوا اللاعبين (وهذا أمر غير مستطاع) أو أن ينزلوا الى الملعب ليعطلوا من اللعبة الخطرة ما يؤذيهم ويشقيهم: اليوم أو غدا.. بشرط أن يستوفوا شروط اللعبة: من التخطيط والهمة والنشاط والمثابرة و(فن) تسجيل الأهداف.