القاضي «الصليبي» والمجاهد «المؤمن»

TT

وصف أحد قضاة محكمة الاستئناف الانجليزية عمر محمود محمد عثمان وشهرته ابو قتادة بانه «حقيقة في غاية الخطورة» ينبغي حماية المجتمع من شروره.

ومع ذلك حكم، وزملاؤه، الثلاثاء الماضي، ضد الحكومة البريطانية، برفض طلبها بترحيل ابي قتادة الى بلده الاردن حيث ادين غيابيا في تنظيم عمليات ارهابية عام 1998 (منها التخطيط مع الارهابي الراحل ابي مصعب الزرقاوي)، ومتهم بتقديم المبررات الآيديولوجية والتحريض على هجمات سبتمبر الارهابية (وجدت شرائطه التحريضية ضمن مقتنيات محمد عطا، قائد المجموعة الارهابية).

الرجل الذي وصف بانه سفير الشقي اسامة بن لادن، في اوروبا، افتت المحكمة بعدم احتجازه بحجة الامن، لكن خطورته اقنعت القضاة بوضعه تحت الاقامة الجبرية في منزله ويمنع عنه الانترنت والتليفون الجوال، وعدم التجول الا في عدة شوارع محيطة بمكانه الآمن. وصدق القضاة على قائمة اشخاص يمنعون من زيارته والاتصال به، منهم ابو حمزة المصري الذي يقضي عقوبة بالحبس بعد ان ادانته المحكمة بتهم التآمر على القتل واختطاف رهائن في اليمن، والتحريض على القتل والكراهية العنصرية؛ كما تضم القائمة بن لادن نفسه والدكتور ايمن الظواهري.

ايجار منزل ابي قتادة يتحمله دافع الضرائب، وايضا نفقات اعانة الشؤون الاجتماعية من مأكل ومشرب وملبس هو وزوجته وأولاده الخمسة، بما يساوي مليون دولار سنويا ليضمن لابي قتادة حقوقا، اصدر هو فتاوى تحرم الناس، منها عندما حرض العشرات على عمليات ارهابية لقتل «الكفار والمنافقين من المسلمين».

في حكم محكمة الاستئناف الانجليزية (لاسكوتلندا وايرلندا الشمالية انظمة قضائية مختلفة) عبرُ، نقدمها للقارئ العزيز.

اهم العبر عظمة القضاة الانجليز في تقديسهم للعدالة وسيادة القانون بحرفيته؛ فلي ذراع القانون ولو مرة واحدة بحجة حماية المجتمع من الارهاب، في غياب ادلة تضع المتهم وراء القضبان، اعتبره القضاة سابقة خطيرة تنتهك القانون وهيبته وقد تفتح الباب لانتهاكات تنال من سيادة القانون، الضامن الاول للديمقراطية.

ننبه القارئ ايضا الى احترام احكام القضاء من جانب الاجهزة، ابتداء من عسكري البوليس الذي يقف بباب مسكن ابي قتادة الى وزيرة الداخلية جاكي سميث التي نفذت الحكم صاغرة ولم يخطر ببالها ان توحي لضابط بوليس بتأجيل الافراج عن ابي قتادة ولو ليوم واحد. اكتفت الوزيرة «بأن تدرس» تقديم طلب لنقض الحكم، الاستئناف، امام قضاة مجلس اللوردات، وهي المرحلة العليا في مسلسل القضاء المستمر لاعوام في محاولة الحكومة ترحيل ابي قتادة لبلده الاصلي مما كلف الدولة ملايين الجنيهات.

هناك عبرة لحكومة غوردون براون العمالية التي اختلط ترتيبها في اولويات الجهاد ضد الارهاب.

خسرت الحكومة قضية الاستئناف لان الادلة التي قدمتها لم تقنع القضاة بانها كافية لتبرير استمرار حبس ابي قتادة تمهيدا لترحيله بحكم محكمة ابتدائية.

السبب ان اجهزة الامن والمخابرات ووزارة الداخلية لم تقدم كل الادلة التي لديها، لان الحكومة، حتى الآن، لم تصل الى صيغة قانونية لتقديم ادلة حصلت عليها الاجهزة بطريقة سرية، كالتنصت على المكالمات التليفونية. وحسب لوائح العدالة الانجليزية لا تأخذ المحكمة بهذه الادلة دون مثول من جمعها في منصة الشهود وتعرضه لاستجواب كل من الادعاء والدفاع.

اجهزة الامن تتحجج بالسرية. وبدلا من تركيز حكومة براون جهودها على ايجاد مخرج من «الحارة السد» القانونية حول الادلة السرية، فانها ركزت على كسب الصوت الغوغائي واستعراض العضلات بتمرير قانون تمديد حبس المشتبه فيهم لستة اسابيع في خرق واضح لمواثيق حقوق الانسان (راجع مقالنا السبت الماضي).

وقد يتسائل القارئ: الا تكفي ادلة الادعاء في المحاكم الاردنية التي ادانت ابي قتادة لاقناع المحكمة بترحيله؟

وصل ابو قتادة وأولاده الى بريطانيا عام 1993، بجواز سفر اماراتي مزيف، وقبل التحقيق في تهمة تزوير وثائق السفر، طلب اللجوء السياسي بحجة تعرضه للتعذيب في بلده الاردن.

العبرة ايضا للبلدان العربية التي تطالب بريطانيا ودول اوروبا بتسليم هاربين من العدالة طلبوا اللجوء السياسي، اذ سيصعب ترحيلهم.

ففي دقائق معدودة نجح محامو ابي قتادة في اقناع القضاة بعدم ضمان الا يتعرض موكلهم للتعذيب للحصول على معلومات واعترافات قد تؤدي لادانته في قضايا اخرى (اعترافات المتهم اثناء التحقيق لا تأخذها المحاكم الانجليزية عادة كأدلة ادانة جادة)، او للقبض على آخرين قد يتعرضون بدورهم للتعذيب، وربما لعقوبة الاعدام التي الغيت في بريطانيا قبل نصف قرن تقريبا.

الواضح ان الدول العربية التي تنفذ احكام الاعدام، لن تستطيع حكوماتها ابدا، النجاح في طلب تسليم متهمين في قضايا ارهابية من الدول الأوروبية، اذ سيرفض القضاة الطلب، في حالة وجود اي اشتباه بان مصير المتهم سيكون حبل المشنقة. كما ان معظم الدول العربية، اما غير موقعة على الميثاق الدولي لحقوق الانسان، او ترفض تطبيق اجزاء منه، كحرية الفرد في اختيار العقيدة، وحرية التعبير، وغيرها مما يضعف موقفها امام المحاكم.

محامو الحكومة تحججوا بتوقيع مذكرة تفاهم بين الاردن وبريطانيا تتعهد فيه الاولى باحترام حقوق الانسان وحسن معاملة المتهمين الذين يتم ترحيلهم من بريطانيا.

لكن محامي ابي قتادة دفعوا بامثلة عديدة من بلدان شرق اوسطية، «مستقلة القضاء» ضرب فيها البوليس وأجهزة الامن باحكام القضاء عرض الحائط، واستمر حبس من امر القضاء بالافراج عنهم، او اختطف البوليس بعضهم وأعيدوا للسجن.

قال المحامون، ان مذكرة التفاهم لا يضمن الالتزام بها في هذا الحزء من العالم.

ولعل اهم العبر هنا ان ابي قتادة وامثاله، ينتمون لآيديولوجية سياسية (اكرر هنا آيديولوجية سياسية وليست دينية) تحتقر غير المسلمين، وأوصى، في كتاب اصدره في 71 صفحة بان واجب المسلم قتل الصليبيين. رغم انه طلب اللجوء السياسي اليهم، فآمنوه من خوف، واطعموه من جوع، وضمنوا له المسكن والملبس، والعدالة التي تحميه من زنازين وسجون بلاد المسلمين.

المفارقة انه لو كتب النجاح لدعوة ابي قتادة، لا قدر الله، «باسلمة» المجتمع البريطاني على الطريقة الجاهلية التي يبغاها، فسيعني اختصار سنوات من الاجراءات القضائية الى صفعتين على قفاه وشلوت يسرع خطاه صاعدا الى أول طائرة تقلع الى عمان.