العراق.. مازال لغزا

TT

عندما كنت في القاهرة الأسبوع الماضي، أخبرني المحلل السياسي المصري أسامة الغزالي حرب عن خطاب ألقاه أخيرا في الكاتدرائية القبطية هناك. وكان النقاش حول وضع السياسة العربية. وقال لي إنه بعد انتهاء كلمته، قام رجل عراقي، جاء برفقة بعض الأصدقاء المصريين، ليسأله. وفي كلامه قال الجملة التالية: توجد «دولتان ديمقراطيتان فقط» في الشرق الأوسط اليوم، وهما «العراق وإسرائيل». فأطلق الجمهور هتافات احتجاج.

وقال لي حرب: «لقد كان الجمهور غاضبا جدا من الرجل»، لأنه قال إن العراق دولة ديمقراطية، وبذلك بطريقة أو بأخرى تتفوق على مصر، ولأنه قارن بين العراق وإسرائيل في المدح، ولأنه لم يقر بالدور الأميركي في «فرض» الديمقراطية في العراق.

وقد أصبح العراق أحد القضايا التي يتناولها العديد من الناس بحساسية مسبقة، لدرجة أنه من الصعب للغاية إجراء نقاش موضوعي حول الوضع الحقيقي هناك اليوم. فالأمر يتأثر كثيرا بشعورك تجاه جورج دبليو بوش أو ما إذا كنت مع أو ضد الحرب. ونتيجة لذلك، نادرا ما تتناول حملات الانتخابات الرئاسية: ماذا سنفعل بعد ذلك في العراق؟ وكيف ولماذا؟

إن ذلك أمر سيئ للغاية، لأنه سيكون مهمة صعبة بالفعل، حيث يتطلب التمييز بين ثلاث حقائق سياسية متضاربة.

الحقيقة الأولى هي الحالة النفسية للشعب الأميركي، التي جعلته يحكم بأن الثمن الذي تكبدناه في العراق طوال الخمسة أعوام الماضية أكبر بكثير جدا مما تحقق هناك حتى الآن. ولذلك، فمن يفوز بالرئاسة، سواء جون ماكين أو باراك أوباما، سيتولى منصبه وهو يعرف أن الشعب الأميركي لن يتحمل أربعة أعوام أخرى من التزام لا ينتهي تجاه العراق.

ولكن الحقيقة الثانية هي الواقع في العراق، الذي لم يعد كما كان. فهناك قصة رعب لا نهاية لها. ومن الواضح أن الحملات التي يقوم بها الجيش العراقي والقوات الأميركية ساعدت على إخماد الصراع الداخلي. ومن الواضح أن أداء الجيش العراقي أصبح أفضل. ومن الواضح أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أكد كونه زعيما وطنيا، بعد أن تخلص من الجماعات الشيعية الخارجة عن القانون. ومن الواضح أن السنة قرروا المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. ومن الواضح أن كردستان مستمرة كإقليم منعزل ملتزم وسوق حرة. ومن الواضح أن القاعدة في العراق نالها الأذى. ومن الواضح أن بعض الدول العربية بدأت تتقبل التغييرات التي حدثت هناك بإعادة فتح سفاراتها في بغداد.

أما الحقيقة الثالثة، رغم ذلك، فهي أن عملية المصالحة داخل العراق ـ وبعد مرور خمسة أعوام تقريبا من غزونا ـ ما زالت لم تصل إلى النقطة التي لا يحتاج فيها استقرار العراق إلى مساعدة خارجية. ويؤكد على هذا الأمر حادث التفجير الذي وقع أخيرا في بغداد، وأسفر عن مصرع أكثر من خمسين شخصا في محطة حافلات في حي شيعي. فما زالت هناك حاجة إلى وجود الجيش الأميركي. وما زال من غير الواضح ما إذا كان العراق دولة يمكن حكمها بطريقة أخرى غير القبضة الحديدية. وما زال من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة أكثر من مجرد مجموعة من الاقطاعيات الطائفية.

فالوضع المتفجر الذي من المرجح أن يكون في استقبال الرئيس المقبل، هو: الرغبة العارمة لدى الشعب الأميركي في إنهاء قضية العراق بسبب تكلفتها الباهظة. ولكن ما زال هناك بصيص من الأمل في تحقيق نتيجة جيدة تعويضا عن بعض من هذه الخسائر؛ رغم أن العراق لم يصبح دولة مترابطة حتى الآن. ويمكننا أن نستمر في مناقشة مزايا الحرب حتى 20 يناير (كانون الثاني) 2009، ولكن بدءا من ذلك التاريخ سيكون هناك سؤال واحد فقط للرئيس القادم: في ضوء هذه الاتجاهات الثلاثة المتضاربة، ماذا تخطط لأن تفعل في قضية العراق التي سترثها؟

إذا كان ماكين هو القائد القادم للقوات المسلحة، فسيخبره الجيش الأميركي في أول يوم أننا لا يمكننا الاستمرار في العراق بمستويات القوات الحالية، قطعا لأن تكاليف قواتنا المسلحة أصبحت غير محتملة؛ وإذا كان أوباما هو القائد القادم، فسيقول له العراقيون في أول يوم إنه لا يمكننا أن ننسحب من العراق فجأة لأنه سينفجر.

سيكون خطأ فادحا من ماكين إذا تخلى عن هدفه في إنقاذ شيء ما في العراق. ولكنه سيكون خطأ كبيرا أيضا إذا افترض أن الشعب سيتحمل التزام رئيس آخر بلا نهاية تجاه العراق. وكذلك، فسيكون خطأ كبيرا إذا تخلى أوباما عن تعهده بانسحاب تدريجي من العراق. فمن شأن ذلك أن يمثل ضغطا هائلا على العراقيين. ولكن سيكون خطأ كبيرا أيضا إذا لم ينظر إلى العراق من جديد ويفكر: هل من الممكن أن ننقذ شيئا ما هناك في مقابل تكلفة معقولة، شيئا يمكنه خدمة مصالحنا، ويفيد العراقيين، ويضع بذورا لمجتمع مفتوح يحظى بمنافع طويلة الأجل؟

يقول مايكل مانديلباوم، وهو مؤلف كتاب «الاسم الجيد للديمقراطية»: «عندما يتعلق الأمر بالعراق، يريد معظم الأميركيين الانسحاب، ولكنهم لا يريدون الخسارة». إن اجتياز هذه الحالات والاتجاهات المتضاربة في العراق سيكون من أشق وأصعب التحديات التي يسلمها رئيس لآخر. لذلك، ربما يكون من المفيد البدء في الحديث عنها الآن.

* خدمة «نيويورك تايمز»