النفط بين اجتماع جدة وحقوق الأجيال القادمة

TT

لماذا دعت السعودية الدول المنتجة للنفط والمستهلكة له لاجتماع طارئ في جدة في محاولة لكبح جماح أسعار النفط؟ ولماذا قامت السعودية بزيادة الإنتاج في الفترات الأخيرة، ولماذا تعلن عن زيادات جديدة رغم أن أي مبيعات إضافية ستؤدي إلى تراكم الأموال السعودية في الخارج في وقت ينخفض فيه الدولار ومعدلات الفائدة؟

الجواب بسيط للغاية: لأن السعودية أكبر متضرر في العالم من ارتفاع أسعار النفط بهذا الشكل! ارتفاع أسعار النفط بالشكل الذي نراه الآن سيقلل الطلب على النفط، وسيزيد إنتاج مصادر الطاقة البديلة، وسيشجع دولا خارج أوبك على زيادة الإنتاج. النتيجة الحتمية لذلك هي انخفاض الأسعار، ربما بنفس الطريقة التي انخفضت فيها الأسعار في منتصف الثمانينات وفي عامي 1998 و 1999. بالإضافة إلى ذلك فإن ضخ هذه العوائد الإضافية في الاقتصاد السعودي في الوقت الحالي سيرفع معدلات التضخم إلى مستويات جديدة ويرفع نسبة العمالة الوافدة.

قد يحتج البعض بالقول إن ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأربع الماضية لم يؤثر على الطلب ولم يؤد إلى زيادة كبيرة في الإنتاج من خارج دول اوبك ولم يؤد إلى تطور إنتاج الطاقة البديلة بشكل ملحوظ. هذه الحجة صحيحة، ولكن يجب وضعها ضمن إطارها الصحيح. فهناك فترة طويلة ضمن السنوات الأربع الماضية التي تعد المرة الأولى في التاريخ التي ترتفع فيها أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي والإنفاق العسكري بشكل كبير، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الدولار أسعار الفائدة. ولكن ارتفاع أسعار النفط الأخير لا يتناسب مع المعادلة السابقة بسبب كمية الارتفاع وسرعته من جهة، ولأن معدلات النمو الاقتصادي بدأت تنخفض. ونظراً لارتفاع معدلات التضخم في الدول المستهلكة وارتفاع العجز في موزانات بعض هذه الدول، خاصة الولايات المتحدة، فإنه يتوقع رفع أسعار الفائدة وانخفاض الإنفاق الحكومي، وبالتالي ارتفاع الدولار. هذه الأمور ستجعل أسعار النفط تؤثر على الاقتصاد العالمي بنفس الطريقة التي رأيناها في السبعينيات، وبالتالي فإن تجربة الثمانينيات عندما عجزت بعض الحكومات حتى عن دفع رواتب موظفيها قد تتكرر. من هنا نجد أن لاجتماع جدة، الذي يضم المنتجين والمستهلكين، أهمية خاصة لأنه يضم كل المتأثرين بالأمر، وليس المنتجين فقط.

لا شك أن الإصرار على مشاركة الأجيال القادمة في ثروة النفط مبدأ نبيل، ولكن هذا لا يعني بالضرورة تخفيض الإنتاج كما يظن البعض. فما فائدة الحفاظ على النفط في باطن الأرض للأجيال القادمة إذا أصبح هذا النفط لا قيمة له بسبب توافر البدائل الناتج عن ارتفاع أسعار النفط؟ إن مصلحة الأجيال القادمة تتطلب منا اتباع سياسات تضمن استمرار الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة. وبما أن المملكة تمتلك أكبر احتياطيات للنفط في العالم، فإن واجبنا وواجب الحكومة تأمين سوق لهذه الاحتياطيات في المستقبل. إذا كانت مصلحة الأجيال القادمة تفرض علينا تأمين سوق نفطي لهذه الاحتياطيات لأطول وقت ممكن، فإن هذا يقتضي أيضاً أن يكون سعر النفط ضمن حدود تضمن تحقيق هذا الهدف. إن خفض الإنتاج وتجاهل الارتفاع الكبير في أسعار النفط لن يحققا هذا الهدف، بل سيؤديان إلى عكسه تماماً. يُجْمعُ الخبراء على أنه ليس من صالح السعودية أن ترتفع الأسعار بشكل كبير لأن ذلك سيحجّم سوق النفط في المستقبل، وقد يلغي دور النفط نهائيا كمصدر أساس للطاقة. لهذا فإن من صالح الأجيال القادمة أن تقوم المملكة الآن بزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار بهدف استمرار الطلب على النفط في المستقبل، حتى لو كانت هناك خسائر ضخمة نتيجة انخفاض الدولار وانخفاض العوائد على الاحتياطيات النقدية في الخارج. من هذا المنطلق تنبع أهمية الاجتماع: أكثر الدول خسارة على المدى الطويل من ارتفاع أسعار النفط هي السعودية، والسعودية لا تستطيع وحدها السيطرة على الأسعار، لذلك لا بد من التعاون مع الدول الأخرى لكبح جماح الأسعار، ولا بد من زيادة الإنتاج. ولكن هذا المنطق يتطلب أيضاً عقد قمة مماثلة عندما تنخفض أسعار النفط إلى مستويات متدنية.

نحن جزء من العالم وعلينا أن نفكر ونتصرف بناء على هذا الواقع. لو قمنا بتخفيض الإنتاج بحجة إبقاء النفط للأجيال القادمة، وفكر الهنود بنفس الطريقة حول الأرز، وفكر السريلانكيون بنفس الطريقة حول الشاي، وفكر السودانيون بنفس الطريقة حول القمح، وفكر منتجو الحديد والنحاس والبوكسايت بنفس الطريقة، ماذا سيحصل لحياتنا اليومية؟ إذا قامت كل الدول الأخرى وطبقت نفس الفكرة، كيف يمكننا العيش على نفط موجود في باطن الأرض ومليارات الدولارات في أيدينا؟ لنكن واقعيين، قامت بعض محلات التجزئة بوقف استيراد الجبنة الدنماركية، فانزعجت الأمهات في البيوت لأنها كانت الأكلة المفضلة للأولاد على الفطور. كل ما علينا هو أن ننظر لمأكلنا وملبسنا لندرك أن المطالبة بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط هي ضرب من اللعب بالعواطف، بعيدا عن المنطق والواقع. وبكل صراحة أقول لكل من ينادي بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط وتجاهل الدول المستهلكة: تأكد أولا أن كل ما تلبسه وتأكله وتركبه، وكل الأدوية وأدوات الجراحة، منتج في السعودية قبل أن تطالب بتجاهل الآخرين. من هنا تنبع أهمية أخرى لاجتماع جدة: ففي الوقت الذي ستركز فيه وسائل الإعلام السعودية على أثر الاجتماع على «الأجانب»، فإن للاجتماع أثرا داخليا يكمن في تأكيد الحكومة السعودية للسعوديين والمقيمين على أن السعودية جزء بسيط من هذا العالم، ولا يمكن لأحد أن يعيش بمفرده.

يتغافل من يدعو إلى تجاهل الدول المستهلكة وخفض الإنتاج ورفع أسعار النفط عن حقيقة مهمة تتعلق بأجوبة الأسئلة التالية: ما الذي حَوّل السعودية من بلد على هامش التاريخ في بدايات القرن الماضي إلى بلد يتكرر اسمه في كافة وسائل الإعلام في شتى أنحاء العالم حالياً؟ ما الذي مَكّن الرياض من سحب البساط من تحت دمشق والقاهرة وبغداد لتصبح عاصمة العرب السياسية والثقافية من غير منازع؟ ومتى حصل هذا التغير؟ ما الذي جعل زعماء العالم مثل بوش وساركوزي وغيرهما يزورون الرياض؟ هل هو النفط؟ لا يمكن أن يكون ذلك لأن ليبيا وفنزويلا والجزائر والعراق وإيران ودول الخليج لم تحقق النجاحات السياسية والاستراتيجية التي حققتها الرياض، وكلها دول نفطية. إذاً ما الذي جعل السعودية تتبوأ هذه المكانة الرفيعة في الأوساط السياسية والدبلوماسية في شتى أنحاء العالم؟ هل هي التكنولوجيا التي تنتجها المملكة؟ هل هي التمور ومنتجاتها؟ هل هي جامعات المملكة ومراكزها البحثية؟ هل هي جوائز نوبل التي حصل عليها العلماء السعوديون؟ لنكن واقعيين، السبب هو مرونة إنتاج المملكة ووجود طاقة إنتاجية فائضة تمكّن المملكة من التحكم في أسواق النفط، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع ذلك. في ظل فشل الجيوش السورية والمصرية في الدفاع عن عواصم بلادها، كان النفط السعودي هو الملاذ الوحيد لمنع سقوط هذه العواصم في أيدي إسرائيل. في ظل فوضى المظاهرات العمالية في إيران في عام 1978 والتي تمخضت في النهاية عن الثورة في إيران في بداية عام 1979، كانت السعودية هي التي أنقذت العالم من كارثة كادت تودي بالاقتصاد العالمي في الهاوية. ثم أنقذت السعودية العالم مرة أخرى في عام 1990 بعد اجتياح قوات صدام حسين للكويت. ولولا الطاقة الإنتاجية الفائضة في السعودية لكنا رأينا أسعار النفط التي نراها الآن في عام 2004. هذه التصرفات أعطت الرياض مكانتها العالية، والتي لم تحصل عليها عاصمة أي دولة نفطية على الإطلاق.

إن مؤتمر جدة هو جزء من هذه المعادلة التي أتقنت الرياض كيفية موازنتها. فالمؤتمر لا يؤكد الدور القيادي للمملكة فقط، وإنما يؤكد أن المملكة جادة في الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة عن طريق زيادة الإنتاج من جهة، وجعل الأسعار مسؤولية كل المشاركين في أسواق النفط من جهة أخرى.

إن زيادة الإنتاج لكبح جماح أسعار النفط تتلاءم مع أبسط قواعد النظرية الاقتصادية لأن مصلحة المملكة تتطلب استمرار الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة. بالإضافة إلى ذلك فإن أعظم سلاح عسكري وسياسي واستراتيجي تملكه السعودية هو قدرتها على تغيير الإنتاج بكميات كبيرة، الأمر الذي يتطلب وجود طاقة إنتاجية فائضة. إن قيمة النفط لا تقيم بالدولارات التي يمكن أن تحققها السعودية الآن فقط، ولكن تقيم أيضاً بالمنافع السياسية والاستراتيجية والتجارية التي تحصل عليها المملكة. لهذا فإن اجتماع جدة يعكس المصالح السعودية أولاً وأخيراً.

* أكاديمي وخبير نفطي