غبار

TT

يجتاح منطقة شمال الخليج وشمال الجزيرة العربية منذ أسابيع موجة من الغبار الشديد الذي أزكم الأنوف، وخفض الرؤية، وتغلغل في البيوت، وتسبب بأمراض الحساسية واستثارة مرض الربو، فامتلأت المستشفيات، وغاصت بالمراجعين المصحات، واضطربت الملاحة الجوية بسبب انعدام الرؤية، وأحمرت العيون، وتحشرجت الأصوات، وتعكرت الأمزجة، وهرب من هرب من البلاد إلى المصايف بحثا عن الهواء النقي.

وتسمى هذه الفترة التي يطير فيها الغبار «بالبوارح»، وأصلها من برح أي غادر، ولكن الغبار باق لم يغادر، ومن أصل الكلمة «غبر» اشتق الماضي السحيق، فيقال زمن «غابر» أي بعيد، ولكن مشتقا حديثا ربط الغبار بالأسى فقيل زمن «أغبر» أي شديد السوء. ويقال أن البوارح ضرورية للنخل كي يثمر «بالبرحي»، والبرحي من أجود أنواع رطب النخل في الخليج، فلا برحي بلا بوارح مثلما يقولون. وتسبق رياح البوارح ظهور نجمة الثريا من الشرق، وهي نجمة براقة ارتبطت بالمثل العربي «أين الثرى من الثريا». وللغبار تسميات محلية مختلفة: فالعجاج هو الريح الشديدة المحملة بالأتربة، وهي عربية صحيحة فيقال «يوم معج». والغبار العالق يسمى «كتام» وهو كلمة مشتقة من كتم، ويسمى في الشام بالطوز ـ ولعلها تركية تعني الملح كناية عن حبات الرمل التي تقارب بحجمها حبيبات الملح.

الفلكيون عزوا شدة غبار هذا العام بندرة الأمطار في موسمها الماضي، فكلما شح المطر، اشتد الغبار في فصل الصيف، ويرى فلكيون آخرون أن هذا الغبار أتى من جنوب العراق ومن الصحراء السورية اللتين عانتا ندرة في سقوط المطر في الموسم الماضي.

جماعة بيئية كويتية محترمة اسمها «الخط الأخضر» ألقت باللوم على الولايات المتحدة الأمريكية التي تسببت بهذا الغبار جراء الغزو الأمريكي للعراق متسببة بكوارث بيئية شمال الكويت وجنوب العراق نتيجة حركة الدبابات. وأصدرت الجماعة بيانا تحث فيه مجلس الأمة الكويتي على التركيز على الكوارث البيئية ومطالبة أمريكا بتعويضات مالية ومساعدات علمية للتعامل مع المتغيرات البيئية الخطيرة.

سارعت وزارة الصحة الكويتية إلى نفي أن يكون الغبار القادم من الشمال يحمل ذرات نووية من اليورانيوم المنضب الذي استعمله الجيش الأمريكي في حربه ضد صدام، ولكن تصريحات صحافية ظهرت في الصحف منسوبة لبعض الباحثين تحذر من خطر الإشعاع النووي.

ولأن كل شيء في الكويت لا بد أن يكون له تفسيرات سياسية حتى ولو كان ظاهرة بيئية، فقد صار للغبار في الكويت إسقاطاته السياسية، فالساحة تشهد مواجهة جديدة بين التيارين الديني والمدني على خلفية إنشاء لجنة برلمانية جديدة اسمها «لجنة دراسة الظواهر السلبية». اللجنة سلفية المصدر والنشأة، والمعترضون على إنشائها مدنيو الهوى والتوجه. الديني يرى فيها واجبا دينيا ووطنيا، والمدني يرى أن اللجنة وجه آخر للجان الشرطة الدينية التي تضيق على الحريات العامة وتتدخل في الحريات الشخصية ومقدمة للدولة الدينية.. وهكذا.

الشاهد أن الفريقين ـ الديني والمدني ـ تسابقا على تفسير الغبار كل حسب موقفه السياسي. التيار الديني في الكويت رأى في انحباس القطر واستمرار الغبار غضب من الرب سبحانه لكثرة المعاصي وانتشار «ظواهر سلبية» في المجتمع الكويتي، وذهب أحد كتاب التيار الديني لتفسير الغبار على أنه امتحان من الله سبحانه لمن يصبر ويصابر، مناشدا الناس الصبر على هذه البلوى البيئية الهينة إذا ما قورنت بالزلازل والفيضانات والأعاصير.

التيار المدني بدوره يرى أن الغضب الرباني ربما وقع بسبب استغلال الدين لأغراض سياسية، وبأن المتاجرة بالدين هي أكبر «الظواهر السلبية» التي ظهرت في البلاد.

المقلق في ظاهرة الغبار أن بعض الفلكيين ـ السياسيين تنبأ باستمراره وشدته لعقود مقبلة.