اتفاق «التهدئة» والأسئلة التي يطرحها

TT

يطرح اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل، قضايا تكتيكية عادية، ولكنه يطرح في الوقت نفسه قضايا استراتيجية، وبخاصة على حركة حماس.

الاتفاق يتعامل تكتيكياً مع وقف «مؤقت» لإطلاق النار على الجانبين، ومع خطوات لإنهاء الحصار على قطاع غزة، ومع فتح للمعابر التجارية أولا، ثم معبر رفح المخصص لتنقل المواطنين. وكل هذه قضايا عملية تنفيذية، جذرها الأساسي هو رفع الحصار عن قطاع غزة. وهنا تستطيع حماس أن تقول، ومعها كل الفصائل المساهمة في المقاومة، إن الضغط العسكري على إسرائيل، حتى بالوسائل الفلسطينية البدائية، هو الذي أجبرها على القبول في النهاية باتفاق التهدئة الذي رعته مصر. ولكن الاتفاق يتعامل من جهة أخرى، مع قضية استراتيجية بالغة الأهمية، وهي قضية قبول التهدئة (وقف المقاومة) مع العدو المحتل للأرض. هل تجوز أو لا تجوز؟. إذا نجحت عملية التهدئة وتواصلت، ماذا ستفعل حركة حماس؟ هل تكتفي بذلك؟ هل تذهب إلى المفاوضات؟ الجواب هنا هو لا. إذن ما العمل بعد ذلك؟ ما هو مصير مشروع صد الاحتلال؟ وما هو مصير مشروع التحرير الشامل؟

نطرح هذا السؤال ليس من أجل المماحكة، وليس من أجل حشر حركة حماس في الزاوية، وعلى غرار الكثيرين الذين قالوا في الفترة السابقة إن حركة حماس لا تستطيع أن تجمع بين المقاومة والسلطة، وكان هدفهم من ذلك إحراجها لكي تتنازل عن السلطة، أو أن تبقى في السلطة وتتنازل عن المقاومة.

نطرح هذا السؤال.. لأنه سؤال استراتيجي جدير بالبحث المعمق، داخل أطر الحركة القيادية، حول معضلات العمل الفلسطيني.

عام 1981، واجهت منظمة التحرير الفلسطينية، وواجهت حركة فتح، وواجه الرئيس الراحل ياسر عرفات، السؤال نفسه في لبنان. كانت المواجهة الإسرائيلية ـ الفلسطينية حادة وعنيفة، وتدخلت الأمم المتحدة لترتيب اتفاق لوقف إطلاق النار، وكان على عرفات أن يجيب: هل تقبل الثورة «مبدأ» وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي؟ كان السؤال استراتيجياً، وكان الجواب عنه صعبا، واختار عرفات في النهاية أن يوافق، لأن الاتفاق كان سيعقد بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة إسرائيل، ورأى عرفات أن هذا الاتفاق أول خطوة إسرائيلية تتضمن الاعتراف بمنظمة التحرير. كان الاتفاق ميدانيا، ولكنه يحقق هدفا سياسيا، وكان هذا الاتفاق يستند إلى جدار الاستعداد الفلسطيني للتفاوض مع إسرائيل إذا كانت هي مستعدة للذهاب إلى ذلك التفاوض. هل نستطيع أن نقارن هنا بين موقف عرفات ذاك وبين اتفاق التهدئة الراهن مع حماس؟ من الأرجح أن الجواب سيكون لا. فهذا الاتفاق يتعامل مع «التهدئة» مقابل رفع «الحصار» عن قطاع غزة، ثم لا يوضح الاتفاق. كما لا توضح حركة حماس، الخطوة المنطقية الثانية التي قد تلي ذلك. هل هي مستعدة للذهاب إلى المفاوضات؟

تستند حركة حماس هنا إلى خلفية موقفها القائل منذ سنوات، وعلى لسان مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، إنها لا تمانع في قبول دولة فلسطينية في حدود عام 1967 كاملة، عاصمتها القدس، وخالية من المستوطنات، وعلى قاعدة قيام هدنة مفتوحة وليس على قاعدة الاعتراف. ولكن ما ينطوي عليه اتفاق التهدئة هنا، هو هدف رفع الحصار عن قطاع غزة، وبما لا يفتح أفقا آخر للتفاوض حول ما هو أشمل، فماذا سيكون عليه الحال بعد ذلك؟ هذا سؤال كبير، يستدعي البحث من قبل حركة حماس، ومن أجل رسم رؤية واضحة للمستقبل، أو لكيفية التعامل مع تعقيدات الوضع الفلسطيني.

عند نجاح حركة حماس في الانتخابات، وتشكيلها لحكومتها الأولى، طرح سؤال التفاوض بقوة، وقالت حماس حينها، إنها تقبل القاعدة القائلة، إن التفاوض سيكون من صلاحيات الرئيس محمود عباس، ومن صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية، وإن اتفاقاً يتم الوصول إليه مع إسرائيل سيعرض على استفتاء شعبي فلسطيني. وشكلت هذه الصيغة مخرجا سياسيا لحركة حماس، ويمكن العودة إليها مجددا. ولكن هذا يستدعي قيام مصالحة بين السلطة وحركة حماس بعد الذي جرى في غزة منذ عام. وهناك الآن مبادرة إيجابية (لولا ما يحيط بها من شغب المستشارين والمفسرين) طرحها الرئيس عباس للحوار وعودة الأمور إلى ما كانت عليه. وتبرز هذه المبادرة حاجة السلطة، وحاجة حركة فتح للحوار مع حماس حول غزة، ولكنها تبرز أيضا، وبخاصة بعد اتفاق التهدئة وما يطرحه من أسئلة وإشكالات، حاجة حركة حماس للحوار، فمن دون هذا الحوار، ومن دون الوصول إلى نتيجة إيجابية بشأنه تعيد اللحمة الفلسطينية إلى حالها السابق، ستبقى المعضلة الاستراتيجية منتصبة في وجه حركة حماس، وستلاحقها أسئلة لا تملك هي إجابة عنها، تضمن رفع الحصار، أو تضمن استمرار رفع الحصار.

نقول كل هذا وفي الذهن، إن اتفاق التهدئة في غزة، والذي يتضمن توجهاً غامضاً يقول إن التهدئة ستشمل الضفة الغربية بعد ستة أشهر، محاط بسلسلة من التحليلات الإسرائيلية التي تتوقع له ألا يستمر أكثر من شهرين أو ثلاثة، يتم خلالها معالجة أمور عدة:

اولاً: مواصلة المفاوضات حول تبادل الأسرى، من أجل إطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليط، حيث تخشى إسرائيل القيام بعملية عسكرية كبيرة ضد قطاع غزة، تؤدي إلى مقتله.

ثانيا: إتاحة فسحة من الوقت، تتواصل فيها الجهود المبذولة لحل الأزمة السياسية المركبة القائمة داخل إسرائيل، حيث السعي لإقالة إيهود اولمرت من رئاسة الوزراء، وحيث السعي لخلافته من قبل قادة حزبه كاديما (تسيبي ليفني)، ومن قبل قادة حزب العمل (ايهود باراك)، وحيث الاحتمال القائم بحل الكنيست والدعوة لانتخابات جديدة مبكرة.

ثالثا: الاستفادة من مرحلة التهدئة، للبحث مع مصر في وقف تهريب السلاح إلى قطاع غزة عبر الأنفاق. وهو ما تعبر عنه إسرائيل بالقول «دور مصر في وقف تعاظم قوة حماس».

رابعا: مراقبة الجدل الدائر داخل إسرائيل ضد اتفاق التهدئة، والقائل إن الاتفاق يعني اعترافاً إسرائيلياً ضمنياً بحركة حماس، وهو يكسر جدار العزلة المحيطة بها، ويشجع السلطة الفلسطينية على التحاور مع حماس، كما يشجع الجهات الدولية على محاورتها أيضاً.

إن احتمال انتهاء التهدئة بعد أشهر، يطرح على القوى الفلسطينية، وبخاصة على حركتي فتح وحماس، مسؤولية الإسراع بالحوار الوطني، وإيجاد حل للانقسام القائم بين غزة ورام الله، فقد مضت سنة كاملة ثبت من خلالها أن مقاطعة السلطة الفلسطينية لحماس لن تسقط الوضع في غزة، وأن الحصار الإسرائيلي على حماس لن يضعف سيطرتها على الوضع. ومضت سنة كاملة ثبت من خلالها أن حركة حماس تحتاج إلى الرئاسة الفلسطينية، وتحتاج إلى حركة فتح، وهما معاً سيشكلان قوة الصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وإلا فإن الاحتلال الإسرائيلي سيواصل الضغط عليهما معاً. الضغط على حماس بحصار جديد، والضغط على فتح والسلطة بإفشال دائم للمفاوضات.