العراق والمحيط العربي: مدخل لإعادة ترتيب الأوراق

TT

تبدو الفرصة اليوم سانحة اكثر من اي وقت مضى منذ عام 2003، لاعادة ترتيب العلاقات العراقية – العربية بطريقة تخدم اندماج العراق ونظامه السياسي المتشكل الجديد بالبيئة الاقليمية، لكنها ايضا تنطوي على تكيف من قبل هذه البيئة مع التحول الذي لايمكن الرجوع عنه، ليس فقط في طبيعة الوضع العراقي، بل ايضا في طبيعة العلاقات العربية البينية. وفي مقابل ما يلوح من فرص بهذا الاتجاه، تلوح احتمالات معاكسة تقوم على فكرة التعايش السلبي مع عراق ما بعد 2003، بكل ما تحتويه من اقصاء لواحد من اهم بلدان المنطقة، وتكريس لاغتراب وجداني تصبح معه العلاقات العراقية ـ العربية مجرد صيغة للتفاعل التكتيكي الخالي من اي ابعاد استراتيجية او افق لشراكة ممتدة.

لقد مثلت زيارة وزير الخارجية الاماراتي الى العراق اختراقا مهما باتجاه تجاوز صيغة التعايش الاجباري، وعدم الاعتراف الفعلي، لصالح التقارب وانضاج صيغة تساعد العراق على اعادة الاندماج بمحيطه، متطلعا لمكاسب هذا الاندماج المادية والمعنوية، وتساعد المحيط العربي على تجاوز سلبيته والانتقال من موقف المترقب الى موقف الفاعل. وليس سرا القول ان المفترق الزمني الراهن يحمل الكثير من الهموم والتحديات والامكانيات التي تفرض اعادة ترتيب حقيقية للاوراق، قبل ان تتغير شروط الزمن واستحقاقاته. وهناك اليوم عاملان اساسيان يفرضان عملية المراجعة تلك، الاول هو ان الوضع العراقي لم يعد بهشاشته السابقة التي كانت تفرض نوعا من اللايقينية حول اتجاهات الاوضاع في هذا البلد، وامكانية استمرار وحدته، فإلى حد ما تم تجاوز المخاوف الكبرى الناتجة عن الصراع الاهلي والاستقطاب الطائفي الحاد، ويجري التعامل مدا وجزرا مع ما تبقى من رواسبهما في ظل مناخ يوحي بثقة اكبر، واذا ما تواصل هذا الخط تصاعديا سيمكن القول ان العراق اصبح يعني شيئا اكثر وضوحا وبمعالم اكثر تحديدا مما كان عليه في السنوات الاخيرة، وبالتالي هو ليس مجرد قصة اخبارية او مشروعا مؤجلا. العامل الثاني هو الاتفاقية الامنية العراقية ـ الامريكية التي يجري حولها جدل واسع النطاق داخل العراق، وفي الاروقة الاقليمية والدولية، والتي تنطوي على افق استراتيجي حتى لو تم اختزالها الى مذكرة تفاهم، ومن المعلوم ان اي فعل استراتيجي تترتب عليه نتائج واثار محيطية لا يمكن للاخرين تجنبها.

هشاشة الوضع العراقي في السنوات الاخيرة قدمت عدة انواع من المغريات، مثل اغراء التدخل وملء الفراغ ، واغراء الترقب والانتظار واغراء المشاركة والتفاعل، لكن الاغراء الذي تقدمه حالة العراق، وقد اخذ يتجاوز هشاشته هو اكبر، انه اغراء كسب بلد مهم بدلا من خسارته في معادلة دولية واقليمية تتضاءل فيها كثيرا فرصة الحصول على انصاف الحلول. لقد آن الأوان ان ينظر المحيط العربي الى العراق في ظل ادراك اعمق لشروط اللحظة الراهنة، وقدرة اكبر على تجاوز الاحكام النمطية السابقة حول الوضع العراقي. فلقد ادرك العرب ان هشاشة العراق ليست في خدمتهم وان الانقلاب على نسيجه الاجتماعي لن يخدم مصالح الدول العربية ذات الافق الاستراتيجي، وبالتالي فإن بإمكان العرب ان يبحثوا عن خيار بديل غير الانتظار والترقب: انه خيار المشاركة والتفاعل. ربما خدمت هشاشة العراق من كان يخشى امتداد المشروع الامريكي الشرق اوسطي بصيغه «البوشية» المعروفة، لكن تلك الهشاشة لم تقدم للمنطقة مشروعا افضل، بل جعلتها حبلى بصراعات ذات طابع استنزافي وشكوك تزداد تجذرا، وفي الوقت الذي يقترب بوش وايديولوجيو ادارته من الرحيل، يصبح بالامكان دفن تلك المخاوف في الزمن المقبل. وما لا يقل اهمية عن ذلك، هو انه مع استهلاك الخطاب الايديولوجي التقليدي حول «الاحتلال والمقاومة» في العراق مع الفضائع التي شهدها البلد بفعلهما، يحل خطاب اقليمي اخر مصدره الصراع الطائفي ـ السياسي الذي قد يودي بامكانية الاستقرار والازدهار في المنطقة لعقود طويلة قادمة، وعليه صار لزاما البحث عن بديل للخطابين. ليس مصادفة انه لا يمكن ان يمر الا عبر اعادة فهم ومراجعة الموقف من العراق. لقد كان الكثير من العرب يخشون من عراق مختلف، الا انهم لم يكونوا في الغالب منسجمين مع العراق السابق لانه كان مختلفا على طريقته، وربما آن الأوان ليبحثوا في العراق الآخذ بالتشكل عن فرص افضل تتفهم قواعد هذا البلد وطبيعة تكوينه. الوضع الراهن يفرض على العراقيين اتخاذ قرارات كبرى ذات تأثير زماني ومكاني واسع وعميق، وهناك فرق بين ان يتخذوا هذه القرارات، وهم جزء من محيطهم المتفاعل معهم والقادر على احداث مدخلات ايجابية في وعيهم، وبين ان يتخذوها وهم خارج التأثيرات المتكافئة من هذا المحيط مأسورين لاستثنائية اللحظة كما لجسامتها. مساعدة العراقيين لا تتم عبر الانعزال عنهم كما لم تتم عبر المراهنة المجردة على بعضهم، والنظام الجديد بقدر ما بدا خطرا في نظر بعض العرب قد يكون مكسبا على المدى الأبعد لانه الوصفة الوحيدة التي تفرض على العراقيين ان يحاوروا بعضهم وان يحتملوا هواجس كل منهم، وبالتالي ان ينتجوا عراقا اكثر قدرة على التصالح مع تناقضات محيطه وفي مرحلة لاحقة على الاسهام في اطفاء هذه التناقضات. مصالحة النظام العراقي الجديد ليست مصالحة لحكومة بعينها او لحزب بعينه، بل مصالحة مع الفرصة التاريخية التي صارت حبلى بإمكانية انجاب عراق مختلف عن الماضي البعيد منه او القريب.