لعبة جمع المال

TT

إذا أصبح جمع المال غاية، وصار مرضاً مزمناً عند كثير من الناس تحولوا إلى خدّام وعبيد للدرهم والدينار يجمعونه من كل وجه ويكنزونه ويواصلون اللعبة القذرة وهي جمعه من حلال وحرام دون الاستفادة منه والتمتع به وقضاء الحقوق وأداء الواجبات، يقول (بيفر بروك): لقد جمعت من المال الكثير ولكنني رأيت من واقع التجربة أن هذه اللعبة، لعبة جمع المال، خطيرة وليس لها نهاية وتبلع العمر والسعادة، لذلك غيرت عملي واتجاهي إلى عمل آخر أهواه في مجال النشر لا يُدرّ مالاً كثيراً، ولكنه يحقق لي السعادة وخدمة المجتمع، وإنني أنصح كل رجل أعمال جمع من المال ما يكفيه جداً أن يكف عن لعبة المال، ويتقاعد مبكراً ليستمتع بما حقق، ويشرع في عمل محبوب، فيه خدمة للمجتمع وإمتاع للوقت.

إن صاحب المال الذي جربه وامتلك الكثير منه لا يُعنى إلا قليلاً بأن يخلّف لورثته ثروة كبيرة، لأنه يعلم أنهم يكونون رجالاً أفضل إذا نزلوا إلى الميدان مجردين من الثروة ولا يملكون إلا العقل والأخلاق، إن الثروة بلا مجهود كثيراً ما تصبح لعنة لا نعمة، وشقاءً لا سعادة، حيث يشبع بها الرجال أجسادهم برفاهية وخمول، وعقولهم بتفاهة وفراغ، ويبتسرون الشباب الوضيء حتى الممات.

وقد حدّثني طبيب مشهور في الرياض أن أحد التجار الكبار كان يراجعه لمرض نزل به، قال: وكنتُ أطالبه بأخذ قسط من الراحة، فيقول لي: أنا مشغول بسفريات واجتماعات ووقتي ليس ملكي، قال: فسألته: كم تملك من المال؟ قال: إنني أملك من العقار والمال السائل ما يقارب ثلاثة مليارات ريال، قال الطبيب: فقلت له: لو وزعت هذه المليارات على أيام عمرك وعمر أبنائك وبناتك لعشتم أرغد عيش وأسعد حياة في أمن وراحة وهدوء وجلست في بيتك مطمئناً، قال: لا أستطيع والله البقاء في بيتي، فأنا مصاب بمرض جمع المال، فما أنتهي من صفقة حتى أبدأ بصفقة أخرى، ولا أخرج من مشروع حتى أستأنف مشروعاً آخر، وأنا من سفر إلى سفر، ومن اجتماع إلى اجتماع، فقال الطبيب له: هذا والله الشقاء بعينه ولو أن رجلاً عنده فقط الكفاف من المعيشة مع الرضى والقناعة لكان أسعد منك ألف مرّة.

قلتُ: وقد سبق المتنبي لهذا المعنى فقال:

وَمَن يُنفق الساعات في جَمع ماله

مخافة فَقر فَالَّذي فَعل الفقر

إن عبيد الأرصدة والشيكات والصفقات والمليارات يمارسون بلا شعور لعبة قذرة اسمها جمع المال بلا غاية، وتكديس الثروة بلا نهاية، والتهالك على المادة بلا ترشيد ولا تمتع بالمباح ولا أداء حقوق ولا بناء مجد ولا ادخار للآخرة، وقد وصف الله تاجراً نذلاً لئيماً حقيراً كان عنده جرّة ممتلئة نقوداً من الذهب، كان يعدّدها كل ليلة ويقبلها درهماً درهماً ويقول للدرهم وهو يقبله: ما أحسنك وما أبهاك! طبت حيّاً وميتاً، والله لا تخرج من هذا المكان حتى أموت، فأتى الوحي المعجز المفحم المتَحدّى به ليقول له وهو يدمغه ويذله ويحقّره: (ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالاً وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة(، مساكين عبيد المال الذين يلهثون وراء جمعه بلا مقاصد حسنة من صدقة متقبّلة أو ثناء حسن أو دعاء من مسكين وأرملة أو صلة رحم أو إكرام ضيف أو إغاثة مكروب أو إعانة معسر، إن هؤلاء العبيد يُعذّبون بأموالهم، فهم في شقاء ولو زاد الرصيد وعظم الدخل؛ لأن طريقتهم في جمع المال طريقة عقيمة سقيمة لا توافق المقصد الشرعي الصحيح من جمع المال.