ساخر مصر الأكبر

TT

الأدب الساخر، أو الضاحك، أو الهزلي، هو أصعب أنواع الأدب. ادخل إلى أي مكتبة كبيرة وتأمل رفوفها: التراث. الرواية. الشعر. النقد. التاريخ. السياسة. الجريمة. القانون. الفلسفة. المائدة. الإدارة. الصحة... الخ. تجد عشرات المؤلفات تحت كل مسمى. تجد قلة من المؤلفات على رف السخرية. في كل اللغات. انظر إلى الأعمدة والأبواب في الصحف والمجلات. الكتَّاب الساخرون ندرة والساخر حقا منهم نادر.

مصر، بلد النكتة ودعابات الصعيد والضحكة السياسية، أعطت عشرات الكتَّاب الكبار، لكن كلما جاءت على ذكر الساخرين الكلاسيكيين (خارج المسرح)، لا تزال تتوقف عند المازني وحده. هذا الشهر كرمَّت «وجهات نظر» ألمع وأبرز ساخري مصر الأستاذ الكبير محمود السعدني «الذي يمضي شيخوخته بهدوء في ضاحية الهرم». إنه الرجل الذي وضعه أنور السادات في السجن والمنفى لأنه قال على الهاتف لصديق له: «الأول موَّتنا من البكاء، وده حيمَّوتنا من الضحك». كان موضوع السخرية الأول والأغزر عند محمود السعدني رجلا بائسا فقيرا ظريفا صعلوكا يعرف «بالولد الشقي» وأحيانا «بالعبد لله». صعلوك يضحك وهو يصف البحث عن لقمة، وهو يصف الحياة في غرفة فارغة حتى من سرير، وهو يبحث مع عشرة من رفاقه عن عشرة جنيهات فلا يعثرون إلا على نصف جنيه، عشرة قروش كاملة قسط «العبد لله».

يضحك الناس أكثر ما يضحكون عندما يرون رجلا يسقط أمامهم، أو يتعثر بحجر. السعدني هوميروس العثر. ملحمة من الشقاء الضاحك، ما أحزنه أحد أو شيء سوى مرض ابنته هالة، التي كانت الموضوع الدرامي الوحيد، في كل ما شعط وعفص وتلكلك وتشنبط واشمئنط. وطبعا لا أعرف معاني هذه الكلمات. لكن أحدا لم يخلط الفصحى بالعامية مثل «العبد لله». ولا أعتقد أن أحدا في آداب العالم هام بحبه الأول الهيام الكبير ولما أراد أن يصف جمال حبيبته لم يستعر من عنترة، ولا من ابن أبي ربيعة، ولا من اراغون، بل من ورشة التزفيت قرب البيت: «فقد كانت عيناها واسعتين عميقتين سوداوين ولامعتين كأنهما من الزفت المغلي».

شعرنا بفراغ كبير عندما بدأ التعب يرهق محمود السعدني قبل سنوات. خفت الابتسامات الخارجة من السطور أو مما بينها. قل عدد الهلافيت الذين كانوا يحاولون تقليده. تدهور فن الكتابة الساخرة المؤلمة الذكية المضحكة. لم يعد هناك من يضحك ويضحك الناس على مظاهر التخلف في الصحافة. وتحية طيبة يا عمنا محمود. كم صحافي عربي يمكن أن يكتب أن حبه الأول كانت خادمة تدلله.