برسم من انطلت عليهم خدعة «العروبة»!

TT

حتى خصوم رفيق الحريري من الساسة المسلمين السنّة في لبنان كانوا يدركون حقيقة موقف الرئيس السابق إميل لحود من «اتفاق الطائف»، لكن ضيقهم من الحريري وكرههم له، أقنعهم بالسكوت... ومسايرة لحود.

أيضاً كانت ثمة قيادات سنيّة تُرضي نفسها بالمثل اللبناني الذليل «العين لا تقاوم المخرز». وبالتالي، إذا كانت دمشق ـ التي تدّعي المشاركة في رعاية «الطائف» ـ أول معرقلي تطبيقه كي لا يؤدي في يوم من الأيام إلى قيام دولة حقيقية في لبنان، فكيف يمكنهم مناوأة دمشق؟ ولمصلحة مَن يعرّضون مصالحهم الخاصة للخطر؟ ولماذا يُعادون رئيس جمهورية مسيحياً ارتضى أن يكون حكمه مجرد سلطة مستنسخة تعمل في ظل جهاز أمني مشترك سوري ـ لبناني؟

لقد عمّمت الواجهات الإعلامية للجهاز الأمني السوري ـ اللبناني المشترك بعيد انتخاب الرئيس لحود عنه صورة «الرئيس العروبي» المناضل،... وهذا، طبعاً، قبل المفاوضات العلنية السورية ـ الإسرائيلية.

ولاحقاً، بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، تولّى «حزب الله» و«الشيعية السياسية»، التي ازدهرت في لبنان برعاية دمشق، مهمة احتضان ما صار يوصف أمام العالم العربي بـ«الرئيس المقاوم»،... ومن ثم دعمه سياسياً وجماهيرياً ضد الشارع السياسي السنّي المجروح من جريمة اغتيال الحريري ورفاقه، وتتابع مسلسل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال.

في المقابل، على امتداد العقود الثلاثة التي وضعت فيها دمشق اليد على لبنان، كان طبيعياً أن «تصطنع» لها حلفاء وعملاء في الشارع المسيحي. وكما يعرف اللبنانيون جيداً أوصلت دمشق هؤلاء إلى مناصب رفيعة، وخلقت لهم أيضاً ـ ضمن ضرورات «الماكياج» السياسي ـ هالات مزيّفة من «العروبة» و«النضال» و«الممانعة». ولكن دمشق في الفترة التي سبقت تولّي الرئيس بشار الأسد السلطة كانت على بيّنة من حقيقة كل منهم، وتتصرف على هذا الأساس.

فقد كان متولّو الملف اللبناني يومذاك يتعاملون مع «الحليف» كـ«حليف» و«العميل» كـ«عميل» و«المخبر» كـ«مخبر». وحتماً ما كانوا يسمحون لأنفسهم بتصديق الأوصاف التي كانوا يطلقونها على مَن يتعمّدون «تلميع» صورهم وتكبيرهم وتقريبهم.

كذلك كانوا يدركون أن بين دوافع استجداء بعض هؤلاء الاستزلام لدمشق تحريضها لضرب خصومهم المحليين، وبالذات، الخصوم الذين استفادوا «طائفياً» من «اتفاق الطائف»... وبالأخص رفيق الحريري و«السنيّة السياسية» التي ورث زعامتها وعزّز حضورها.

بكلام صريح، بعض أدعياء «العروبة» و«النضال»، ومن ثَم «المقاومة»، من الساسة المسيحيين كانت معركتهم الحقيقية في لبنان ضد «الطائف» وضد خصومهم المحليين، وبالذات السنّة،... لا ضد إسرائيل ولا ضد الإمبريالية الأميركية. وعندما تولّى الرئيس بشار الأسد الملف اللبناني من «الحرس القديم» (عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان وغيرهم) ـ قبل تسلمه الرئاسة ـ تبنّى نهج هؤلاء ورعى معركتهم... ولا يزال.

مسيرة التفاوض مع ميشال عون في منفاه بباريس، و«ترتيب» دمشق أمر عودته إلى لبنان، والتفاهم معه على شروط اقتحامه الحلبة السياسية ... جاءت ضمن هذا السياق تماماً. ولذا لم يفاجأ المتابعون العقلاء بانقلاب عون على تحالف «14 آذار» بعد رفض التحالف شروطه التعجيزية، ثم دخوله في حلف مع «حزب الله» وكل المحسوبين على دمشق من شتى الرتب، ومشاركته في اعتصام قلب بيروت وتغطيته على «الغزوات الإلهية» لحليفه الأكبر.

منذ عودة عون، ورغم تعمّده في الشارع المسيحي تصوير نفسه على أنه «الضحية» التي تآمر عليها المسلمون إبان الانتخابات العامة الأخيرة عام 2005، ظل بعض الساسة المسلمين وأتباع الجهاز الأمني السوري ـ اللبناني مستعدين لغض الطرف عن هدفه الحقيقي، كما غضوا الطرف من قبل عن الهدف الحقيقي للحود.

ولكن خلال الأسبوع الماضي مع الإعلان عن إطلاق «لقاء مسيحي» جديد من مقر إقامة عون، يضم عدداً من «مسيحيي دمشق»، وخلال ساعات معدودات من تصريح لعون قال فيه إنه سيسعى لإعادة النظر في «صلاحيات رئيس الحكومة»، انكشفت حلقة مهمة في المؤامرة المدروسة والمتطاولة على «الطائف» كانت لتاريخه مستورة عمداً.

المؤامرة كانت مستورة... لكنها كانت أقرب إلى «السّر شبه المعلن».

فأحداً ممن يعرف الرئيس لحود كان لا يصدّق أن عداءه للحريري ناجم عن «عروبته» مقابل «أميركية» الحريري. وأحداً ممن تابع مسيرة عون لا يصدّق أنه تحول فجأة من الراهب الماروني المقاتل إلى نسخة عن الشيخ نعيم قاسم، وأحداً ممن استوعب المواقف والتحالفات والنظريات السياسية للسيد كريم بقرادوني لا يشكك ولو للحظة في أولوياته.

المشكلة ليست مسيحية، مع أن «مسيحيي دمشق» في كيدهم الانتحاري يتوهّمون أنهم يخدمون المصلحة المسيحية العليا التي فرّط بها «مسيحيو الموالاة».

ليست في وجود تعصّب طائفي مريض يدّعي لنفسه ما ليس فيه، بينما يرمي الأحرار والتقدميين المسيحيين الحقيقيين بالضعف والاستسلام والفساد، بل في تواطؤ قوى إسلامية تزعم أنها حريصة على «وحدة المسلمين» لكنها مع هذا تتحالف مع هؤلاء وتحرّكهم وتحرّضهم وتستغل تطرّفهم... للاختباء وراءهم.

على «الشيعية السياسية»، التي تشكل أساس المعارضة ومحركها، والماضية قدماً في مشروعها الإقليمي التوسعي، أن تصارح الشركاء الآخرين في الوطن ـ إذا كانت لا تزال تؤمن بوجود شركاء أو وجود وطن ـ بموقفها من «اللقاء» الطائفي الجديد.

عليها المصارحة بأمانة... خاصة أنها عبر «إعلامها الحربي» لم تكتف طوال العامين الأخيرين بتناسي مواقف عون (حتى 2004)، وتنزيهه ورفاقه عن تهمة التعصب الطائفي،... بل بعدما اعتبرته مناضلاً من أجل المقاومة وسلاحها، نصّبته ناطقاً باسمها في كل المماحكات الهادفة إلى تعطيل عملية إعادة بناء الدولة ومنع قيامها.