من منازلهم

TT

ماذا تفعل حين يفاجئك الطفل الذي يسكن بداخلك ويكرر للمرة الألف ان الجرح ما زال مؤلما لأنه عاش طفولته وهو مغلوب على أمره؟ هذا الطفل عمره عشرة اعوام وعمرك خمسون. ولكنه انت وانت هو. كيف تتعامل معه؟ حين تفاجئني الطفلة التي تسكن بداخلي وتشكو من ظلم وقع عليها، فإنني لا اغلق الباب في وجهها ولا انهرها ولا اقول لها انني مشغولة بعمل أو بفكر لا يسمح بكلام العيال. الحقيقة هي انني ادعوها للدخول واسايرها واستمع لها واربت على ظهرها واعد بالنظر في الامر حتى تقرر انها عائدة من حيث اتت.

تلك هي الوسيلة التي أتعايش بها مع حصاد العمر والتجارب لكي أصل الى حالة الرضا والثبات. حين يطرق بابك واحد من أجزاء ذاتك المركبة، تأكد انها دعوة مفتوحة للاختيار الحر. فإما ان تسمع وتعي وتقبل عليه وتعده خيرا، واما أن تهرب منه وتبحث عن متعة فورية تنسيك وجوده الى حين اشعار آخر. والاشعار يأتي شئت ام ابيت.

قرأت اليوم ان جامعة لندن تحتفل هذا العام بمرور 150 عاما على انشاء قسم الدراسات الحرة. هذا القسم بدأ نشاطه بارسال المواد التعليمية الى الراغبين باستكمال التعليم على عربات تجرها الخيول. أما الآن فالمواد الدراسية متاحة للجميع على الانترنت. ضغطة زر او ضغطتين تؤمن لك كل ما تريد. حين قرأت هذا التقرير تطلعت الى مستقبل لا تبقى فيه فتاة عربية واحدة محرومة من العلم والمعرفة، إما بسبب ضيق ذات اليد أو بسبب الاعراف والتقاليد. وتطلعت الى مستقبل لا يغري عشرات الآلاف من الشبان بإهدار الوقت والمجهود في غرف الدردشة أملا في الحصول على موعد غرام، او هربا من الملل أو من الاحساس بالظلم في ظل اوضاع اجتماعية واقتصادية لا تعد بشيء. إذا شكا الطفل بداخلك من أوجاعه هل تبحث عن سيجارة تنسيك همك لبضع دقائق؟ هل تهرب إلى اقرب «مول» حيث تلتقي باصدقائك للتسلية وقطع الوقت؟ هل تبحث عن احدث اغنيات نجمك المفضل وتسجلها لكي تتباهى بمعرفة المواقع المثيرة على النت؟ هل تبحث عن «صديقة» على النت تشعرك بأنك فارس آت من اغوار الزمن ليحملها الى عالم الاحلام؟

أن لم تكن واحدا من هؤلاء قد تكون محظوظا فتدعو الله ان يكفيك شر نفسك وتنسحب الى فراشك لكي تنام.

وماذا عن البنات؟ آلاف يشكين من ظلم الاخوان والآباء ويشعرن بالجفاف العاطفي فيبحثن عن سراب اسمه حب الانترنت. غير المتزوجة تبحث عن زوج والمتزوجة تتقمص شخصية ارسين لوبين وهي تحاول كشف المستور بقراءة بريد زوجها الالكتروني وهو غافل. وغير هذه وتلك اخريات عقدن مع الهاتف تحالفا يبدأ في الصباح ولا ينتهي الا بعد انتصاف الليل.

كل هذا جزء من واقع الحياة في بلادنا. كل هذا يجري بصورة او بأخرى في الوقت الذي فيه بلغ عدد طلاب الجامعة من منازلهم 226000 طالب وطالبة حول العالم. كل منهم يحلم بالتخرج بعد أن يتعلم ما يريد ان يتعلمه بهدف المتعة أولا، ويتطلع الى مستقبل مهني افضل ثانيا. لا يهم ان تكون في العشرين او في الاربعين. ضغطة واحدة على زر الكومبيوتر تؤمن لك اختيارا جديدا واعدا بالأمل خاليا من الخوف والندم.