من صعدة إلى الضاحية.. ماذا يجري؟

TT

في غضون أيام انطلق القصف اللفظي على السعودية من جنوب لبنان إلى شمال اليمن. وبلغة متشابهة ومفردات نهلت من نبع واحد، يفيض من عيون طهران.

مسؤول العلاقات الخارجية (!) في الحزب الإلهي اللبناني نواف الموسوي، خرج قبل يومين مهددا خصوم الإلهيين في لبنان، ومنذرا بالويل والثبور لمن يعين شخصا على أي جهاز امني دون اخذ الإذن من مرشد جمهورية حزب الله الإسلامية حسن نصر الله.

الموسوي، الشهير بتصريحاته البعيدة عن طبيعة منصبه، هتك الستور، و«بق البحصة» وهاجم السعودية بشكل واضح، مع انه قال «دولة خليجية» فيما يحسب انه يلمح فقط، على طريقة مخضرمي الدبلوماسية الذين يلمحون ولا يصرحون.

بحسب صحيفة «النهار» اللبنانية، تهجم الموسوي على السعودية من دون أن يسميها، قائلاً: «هذه الدولة الخليجية تمول الفتنة المذهبية في لبنان». وأضاف «المشكلة هي معركة سياسية تخوضها هذه الدولة الخليجية التي يجب أن تعرف، أنها لا تستطيع أن تحول لبنان إلى إمارة ملحقة بالإمارات التي تسيطر عليها»، مشيرا الى صيغة التعايش اللبناني بين طوائفه. هذا ما قاله أحد رموز الحزب الإيراني ـ اللبناني، الذي اعترف سيده بالتبعية لولاية الفقيه، من شمال الجزيرة العربية، فماذا قيل في جنوب الجزيرة، وفي ذات الأسبوع تقريباً؟

عبد الملك الحوثي، الزعيم الميداني للمتمردين الحوثيين في جبال اليمن الشمالية، ومعاقل الزيدية في صعدة وغيرها، قال في تصريحات متباينة، بعد المعارك الأخيرة مع الجيش اليمني، لجريدة «الوسط» اليمنية الأسبوعية (18 يونيو ـ حزيران الحالي): «السعوديون يستعدوننا مع أننا لسنا أعداء لهم لكن مشاركتهم في العدوان علينا بالأموال وغيرها قد تفرض علينا وتجبرنا أن نعاملهم كأعداء ولدينا خيارات كثيرة وملفات متعددة يمكن إثارتها وتحريكها إلى جانب آخرين يمنيين». واستدرك «لكننا حتى الآن لم نعلن الحرب». واتهم الحوثي في تصريح لصحيفة «النداء» اليمنية في 12 يونيو الحالي السعودية: «بالتورط في سفك الدم اليمني استرضاءً لأميركا»، محذرا من أن تصرفاتها العدوانية إذا استمرت، «قد تفرض علينا تصنيفها عدواً». وأبدى عبد الملك الحوثي لـ«الوسط» إعجابه الشديد بالدولة الإيرانية وسياساتها، وقال إنه مؤيد لهذه السياسات.

الحق أن كلام الموسوي أو الحوثي عن نقد التدخل السعودي، كلام من يريد أن يغطي الشمسَ بغربال، ويصرف الأنظار عن مصدر الإفساد الحقيقي والتدخل الضار، وهي إيران، ولو سلمنا معهم أن السعودية هي أكبر مفسدٍ ومتدخلٍ في لبنان واليمن، لو سلمنا، فلماذا يصبح تدخلها رجسا من عمل الشيطان وتدخل إيران أحلى من ماء المطر؟

نسأل السيد الموسوي: تتحدث عن أن السعودية تريد القضاء على التنوع في لبنان، ولكنك تناسيت أن الدستور الثاني في لبنان الذي ثبت صيغة التعايش «الطائفي» اللبناني، عقد برعاية سعودية في مدينة الطائف السعودية. كما تناسيت أن من بنى آيديولوجيا الحزب الأصولي الوحيد المسلح في لبنان، هي إيران، ولم تبن السعودية حزبا أصوليا سنيا، مع سهولة ذلك، ونعرف كلنا عن وفرة الشباب السني الجاهز للانخراط في أي مشروع أو حركة أصولية سنية ترفع راية القتال والجهاد، ضد أي طرف يقدم على انه عدو الإسلام الحق. فهناك أزمة تطرف جاهزة للثوران تحت الرماد السني، لكن السعودية دعمت خط الدولة والصيغة المدنية في لبنان، وما جرى أثناء غزوة الحزب الإلهي في بيروت وجبل لبنان، دليل على صحة ذلك، فلم يلجأ السنيون إلى السلاح تحت عنوان الجهاد او القاعدة، بل كان شعارُ السنيورة، اذا ما كان حزب الله يفضل الحديث طائفياً، هو الدولة والوحدة الوطنية، وأخذ عليه ذلك، وانه تخاذل ولم يجابه السلاح بسلاح، هو وزعيم المستقبل سعد الحريري، أما أن حزب الله مستاء من التوتر الطائفي في لبنان، وغضبة السنة، فشيء عجيب جدا، كيف يراد أن تكون ردة فعل السنة في لبنان، وحزب الله نفسه افتتح صولته المسلحة بنفس طائفي صارخ، إذ استهدف بيروت الغربية دون غيرها، وهي خزان سني موال للمستقبل، كيف يريد الحزب الإلهي أن يفهم الناس ذلك، هل ينثرون الورد والرز على عصابات ميلشيا حزب الله الصفراء، ويقولون: لبيك يا نصر الله؟!

هذه الطريقة الهزيلة في الجدل الموسوي، في القاء التهمة واللائمة بعيدا عن عباءة الحزب الإلهي، تذكرني بمثال من التاريخ، ربما تتحسس منه ثقافة الحزب السياسية الدينية، فحينما اندلعت المعارك بين الخليفة علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان في «الفتنة الكبرى»، كان الصحابي عمار بن ياسر في معسكر الخليفة علي بن ابي طالب، وكان هناك حديث نبوي عن أن عمارا تقتله الفئة الباغية، فلما دارت رحى المعركة قتل عمار برماح الجيش الأموي، فجاء البعض إلى معاوية وقالوا له: لقد قلتنا عمارا، فهل نحن الفئة الباغية ؟ فرد الداهية معاوية: لسنا نحن من قتله، بل قتله من جاء به!

وهكذا يريد منا حزب الله أن نفهم سبب الهيجان الطائفي في لبنان بين السنة والشيعة، فليسوا هم من أثار الفتنة، بل من رد على عدوانهم من اللبنانيين السنة! وان موقف السعودية، ومعها مصر والأردن، والمجتمع الدولي كله في مساندة الشرعية الدستورية اللبنانية، هو موقف من يريد بث الفتنة والتحريض!

مغالطات عجيبة وتنصل أعجب من المسؤولية، لكن لا بأس على السيد الموسوي أن يقول ذلك، وأمين عام حزبه الإلهي حسن نصر الله قد أبدى حنقه على السعودية من قبل، في شرخ الشباب الأصولي، ففي مجلة «الإيمان» (31 مارس ـ آذار 1995) تحدث وهو قد تولى أمانة الحزب حديثاً، فقال: «لا نقبل أن تحسبوا الحركة الوهابية على الإسلام.. وعلى الصحوة الإسلامية». وهنا مربط الفرس كلمة «الصحوة الإسلامية»، فهي التي يريد الحزب الالهي ان تكون محتكرة التمثيل السني، والصحوة تعني الإخوان المسلمين ومتفرعاتهم كحماس (في مقال سابق بعنوان: الإخوان الإيرانيون. تحدث عن طبيعة العلاقة بين الإخوان المسلمين والثورة الخمينية).

أما الحركة الحوثية، فعجيب تذمر سيدها من الدعم السعودي للحكومة اليمنية، مع أننا لا ندري عن طبيعة هذا الدعم، هو تحدث عن دعم مالي أساسا، ولكن وبدون أن نملك المعلومات الدقيقة، فشيء طبيعي أن تقلق السعودية من هذه الثورة المسلحة على حدودها الجنوبية وعلى الجبال المطلة على سهولها ووديانها، وهي حركة تتلقى الدعم بشكل أو بآخر من إيران. وذهب كثير من طلبة حركة «الشباب المؤمن» التي أسسها مجموعة من الأصوليين اليمنيين على طريقة حزب الله، ومن خلال إعادة تثوير المذهب الزيدي، والذهاب به «سياسيا» باتجاه الخط الخميني الثوري، وكان كثير من طلبة الحركة يذهبون لإيران لتلقي العلم، وكانت شعارات حسين الحوثي، اول زعيم للحركة، (قتل سابقاً)، نسخة مكررة من هتافات جماهير الخميني ونصر الله في إيران وضاحية لبنان الجنوبية.

الحقيقة، انه من المؤسف أن يضطر الإنسان للدخول في هذا النفق الطائفي، ونحن نرى العالم من حولنا يخوض تحديات اقتصادية وتنموية وسياسية أخرى، ولكن ماذا نقول عمن يقحم الدين وإشكالات التاريخ في خضم معركة سياسية من الدرجة الأولى، ويجد من يصدقه، ونحن لا نقول عن شباب الحركة الحوثية انهم عملاء لإيران، فهم في النهاية مواطنون يمنيون، لهم مطالب يجب على الحكومة اليمنية أن تسمع لها، لكن نقول إن برنامج حكومة الملالي والولي الفقيه في طهران تسعى بكل شغف إلى توظيف أي إشكال أو خلاف فيه رائحة مذهبية، وتضخم هذا الخلاف وتنميه من اجل تكثير الأوراق بيدها، من لبنان إلى اليمن، فهل يجب على السعودية ألا تقلق، وهي ترى هذه الثورات غير البريئة والتصريحات العدائية المتزامنة من شمالها إلى جنوبها؟

للأسف هناك من لا يريد لهذه المنطقة أن تقلع عن أسر التفكير الطائفي والمذهبي، القديم ويريد حشرها فيه، بقصد أو بدون قصد، لا فرق فالحصيلة واحدة: إرجاء هموم الناس الحقيقية إلى إشعار آخر.

[email protected]