كان الله في عون لبنان

TT

في الوقت الذي كانت فيه «الدولة اللبنانية» ومئات الألوف من ابناء الشعب اللبناني يحتفلون في «ساحة الشهداء» بـ«تطويب» كاهن كرس حياته لمساعدة وخدمة الفقراء والمرضى، فيتجلى وجه لبنان الموحد حول القيم الانسانية.. في هذا الوقت كان الرصاص يلعلع في شمالي لبنان، بين انصار الاحزاب والقوى السياسية المتنازعة، كاشفا عن الوجه السياسي ـ الطائفي ـ المذهبي البشع في الواقع اللبناني.

كلا، لم يحسم «اتفاق الدوحة» النزاعات المستشرية في لبنان، منذ صيف 2006، كما لم يحسم «اتفاق الطائف»، النزاع الطائفي ـ الوطني ـ السياسي، الذي انفجر عام 1975، وادى الى حرب اهلية طويلة. واستطرادا: لم يحسم «ميثاق 1943»، الذي ارتكز عليه الاستقلال اللبناني، المسألة الوطنية ـ الطائفية، التي تلغم لبنان. مما حمل البعض على القول بأن قدر لبنان هو أن يعيش في خطر دائم، وفي ازمات متلاحقة. وان السلام والاستقرار والوئام فيه، ليست سوى «هدنات»، قصيرة أو طويلة بين حربين.

ولكن بالرغم من كل ذلك، فإن الحياة في لبنان مستمرة، والفنادق تستعد لاستقبال مئات الالوف من السياح، وسعر الليرة اللبنانية، في سوق القطع، لم يتغير منذ عشر سنوات. واسعار العقارات في ارتفاع، رغم هجرة مئات الالوف من اللبنانيين الى الخارج، وارتفاع الدين العام، وتراجع معدل النمو الاقتصادي.

ترى، أي سر وراء هذه المظاهر والمعطيات المتناقضة؟ وكيف يستطيع شعب لبنان ان يصمد ويحيا ويتغلب على الازمات التي تفتعل فوق ارضه، وبواسطة بعض احزابه وسياسييه، وفي الوقت نفسه، يستمر في «تزعيمهم» واتباعهم وهم يقودونه الى هلاكه؟!

لقد حاول البعض تفسير او تبرير هذه الظاهرة «اللاوطنية»، بقوله ان ما جرى ويجري في لبنان من اضطرابات وتقاتل وحروب، انما هي «حروب الآخرين» على ارضه. صحيح الى حد بعيد.. ولكن ألم يكف ما حدث حتى الآن، لكي يعلن اللبنانيون رفضهم للسياسات والمشاريع الاقليمية والدولية، التي تتخذ من وطنهم ساحة، ومنهم وقودا وأدوات؟

كلا، فالمشكلة الحقيقية في الواقع الوطني ـ السياسي اللبناني، ليست تأليف حكومة اتحاد وطني، أو أي نوع آخر من الحكومات، بل هي أعمق واوسع. ولسنا نرى كيف سيجلس

ممثلو «14 آذار» و«8 آذار»، حول طاولة مجلس الوزراء، من دون ان تنشب بينهم، أزمة كل اسبوع؟ وما صدر، في الأيام الأخيرة، على لسان قياديي حزب الله، والعماد عون، وبعض المرجعيات الدينية الشيعية، من تصريحات، انما يحمل معه بذور ازمات مرشحة للاندلاع، كل يوم، في مجلس الوزراء، امام تعيين مدير أو سفير أو نقل ضابط، وكيف اذا كان القرار متعلقا بقرارات مجلس الأمن أو قضية مزارع شبعا، أو وضع استراتيجية دفاعية أو بحث مسألة سلاح حزب الله؟!

بات واضحا ان حزب الله لن يتخلى عن سلاحه، حتى لو انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا. ولئن قال واكد الف مرة بأنه «لن يستعمل هذا السلاح في الداخل» أو لـ«تحقيق أهداف سياسية»، فإن مجرد احتفاظه بهذا السلاح، يشكل ضغطا واقعيا وعمليا وماديا هائلا على كل الأطراف السياسية والطائفية والمذهبية في لبنان.لا سيما بعد ان رفع شعارا جديدا وهو «رفضه تقوية الجيش اللبناني خشية استخدامه ضد حزب الله». أي ان ممثلي حزب الله في الحكومة، لن يكونوا مجرد وزراء عاديين، بل ممثلي قوة عسكرية متفوقة على قوى الدولة، ومتحكمة بالاستراتيجية «الدفاعية عن لبنان»، بل بـ«العقيدة الوطنية» للجيش اللبناني، وبسلاحه وقياداته. بل ممثلي «دولة حزب الله» داخل الدولة اللبنانية.

لقد نجح الرئيس فؤاد السنيورة، وتكتل 14 آذار، في العبور بالسفينة اللبنانية، بين الصخور والالغام، التي انتصبت في وجهها، منذ حرب صيف 2006، وصولا الى الهجمة المسلحة على احياء بيروت، مرورا بمعركة نهر البارد واحتلال وسط بيروت التجاري، ومحاولة تعطيل قيام المحكمة الدولية. وكان انتخاب الرئيس ميشيل سليمان رئيسا للجمهورية، و«فتح أبواب» مجلس النواب، انتصارات وطنية وديموقرطية سجلت لمصلحة لبنان. فهل سيترك حزب الله والسائرون وراءه في المعارضة، الرئيس المكلف يكمل مسيرته الايجابية، أي تأليف حكومة اتحاد وطني واجراء انتخابات نيابية؟ ام انهم «ندموا» على ما قبلوا به في الدوحة، (او ربما طرأت تحولات اقليمية ودولية جديدة ـ غيرت موقفهم؟)، فصمموا على منع قيام أي حكومة برئاسة السنيورة؟

الايام القليلة القادمة ستجيب عن هذا السؤال. ولكن ايا كان الجواب، بل ايا كانت الصيغة ـ المخرج للبيان الوزاري القادم، او جاءت عليه، نتائج الانتخابات النيابية، في العام المقبل.. فإن ما حدث في السنتين الاخيرتين، على الاخص، اثبت ان «الاناء» الوطني اللبناني قد «انشعر»، وان «مياه الوطنية» تتسرب، يوما بعد يوم، منه. وانه بات على اللبنانيين آجلا ام عاجلا، اعادة النظر في نظامهم الديموقراطي ـ الدستوري ـ الميثاقي ـ.

الطائفي. ولكن، الطامة الكبرى، هي في نوع النظام الجديد الذي يستطيع انقاذ لبنان من نفسه وحمايته مما يتعرض او سيتعرض له من تحديات. ذلك ان كل «فريق» ـ ولا اقول

كل طائفة ـ لها تصورها لهذا النظام المنقذ، مختلفا كليا عن تصور الافرقاء الآخرين. ابتداء بنظام ديموقراطي علماني حيادي، وانتهاء بنظام ديني، مرورا بنظام طائفي ـ مذهبي ـ وفاقي. واهم من شكل النظام واسمه، هناك الخلاف السياسي الوطني العميق حول دور لبنان في مستقبل الصراع العربي ـ الاسرائيلي: هل هو دور «الدولة ـ المساندة» أم دور «دولة الممانعة والمجابهة»؟ أم «دولة مقاومة».

ثلاثة مشاريع أنظمة مختلفة.. وثلاثة خيارات استراتيجية مصيرية متناقضة. وشروط للمشاركة في الحكم أقل ما يمكن أن توصف به هو انها تعجيزية.. وكان الله في عون الرئيس الجديد للجمهورية، والرئيس المكلف «أيوب» السنيورة.

كان الله في عون لبنان.