موسم التهدئة في الشرق الأوسط!

TT

ما يجري في منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام كان لا يمكن تصديق حدوثه منذ شهور قليلة بدا فيها الحاضر مقبضا والمستقبل مظلما، والأقدار تجري في أعنتها نحو انفجارات لا حسابات فيها ولا موانع. وبشكل من الأشكال كانت المنطقة تجري في اتجاهات منفلتة وعنيفة، وسواء كان الأمر في العراق (نتائج الهجوم على جيش المهدي)، أو المسألة في لبنان (اجتياح حزب الله لبيروت)، أو القضية في فلسطين

(احتمالات الاجتياح الإسرائيلي لغزة أو الاستهداف الكثيف لقيادات حماس والجهاد الإسلامي بالاغتيال والتصفية)، أو المعضلة في إيران (احتمالات الهجوم العسكري على إيران من الولايات المتحدة أو إسرائيل أو كلاهما) فإن حركة الأحداث كانت تشير إلى أشكال مختلفة من المواجهات والمصادمات التي ليس لها حدود أو سقوف. ولكن ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة كان مختلفا تماما عن كل التوقعات، ومقدمات الانفجار التي أقبلت على لبنان وجعلت الحرب الأهلية والانقسامات اللبنانية المعلومة قدرا لا فكاك منه قادت من خلال اتفاق الدوحة إلى وقف الانزلاق نحو الحرب، وتم انتخاب الرئيس اللبناني الذي طالت فترة انتخابه لشهور طويلة، وعاد البرلمان اللبناني إلى الانعقاد، وحتى بات ممكنا تكوين وزارة لبنانية جديدة، وحدث ذلك كله بطريقة أقرب إلى السحر وبنعومة وييسر.

وعلي نفس الشاكلة تمت سلسلة من التسويات التي تتهامس فيها أطراف عدة في الخفاء والعلن، حتى ولو كانت التصريحات الصحفية أحيانا ساخنة وحارقة بالتهديد والوعيد؛ ولكن نتيجة الاتصالات الهامسة في كل الأحوال كانت تنتهي إلى توافق جديد. وبشكل من الأشكال فإن حكومة المالكي في العراق والمنتقدة من أطراف عدة داخل العراق وخارجها أصبحت تبدو وكأنها حكومة حقيقية تستطيع التفاوض بمهارة مع واشنطن وطهران في نفس الوقت الذي تضبط فيه التحركات بين السنة والشيعة. ومهما كانت التحفظات المشروعة على الاتفاقية الأمنية المتوقعة بين بغداد وواشنطن فإن الاتجاه البادي فيها حتى الآن أنها تمثل أداة لإنقاذ ماء الوجه للرئيس جورج بوش في الولايات المتحدة أكثر منها تحالفا عسكريا حقيقيا. ومع ذلك فإن معركة الاتفاقية لم تنته بعد، وما يهمنا في هذه اللحظة أن الصراع حولها يجري في أشكال سياسية ودعائية ودبلوماسية مع استبعاد أساليب العنف الممكنة سواء من قبل إيران أو من قبل حلفائها في العراق.

ولعل جزءا هاما من الموضوع في العراق كان اتفاق الدول الغربية على تقديم حزمة جديدة من التنازلات الغربية المادية والمعنوية لإيران من أجل وقف تخصيب اليورانيوم، وهي حزمة لا تضمن إعطاء مساعدات فنية وتكنولوجية وتجارية ودبلوماسية، وإنما أيضا إعطاء إيران أدوارا إقليمية أو بمعنى آخر القبول بدور إيراني متصاعد في مجال يبدو حيويا بالنسبة لها. لقد سبق في هذا المكان من قبل أن أشرنا إلى أن المنهج الجديد لإدارة علاقات الخصومة Adversarial Relationship مع إيران على أساس من الوفاق والعداء في نفس الوقت لا بد له، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي والصين في السابق، أن يتضمن تنازلات سياسية إقليمية وهي لن تكون إلا في المجالات الإقليمية لأفغانستان والعراق ومنطقة الخليج. وقد جاءت الحزمة الأوروبية مترجمة لهذا المنهج الذي تختلط فيه الإغراءات بالضغوط، والتمنيات بالوعيد.

وعلى نفس المنوال جرت عملية التهدئة بين الفلسطينيين في غزة وإسرائيل من خلال وساطة مصرية هذه المرة ظلت تتعثر لشهور طويلة، بل وتعرضت لتحديات حقيقية ومباشرة عندما جرى الاجتياح البشري الفلسطيني لسيناء خلال شهر يناير الماضي. ولكن الاتفاق في النهاية، ورغم القيود الداخلية الكثيرة لدى الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، تم وأصبح لبنة جديدة يبنى عليها في اتفاقات لاحقة تخص الإفراج عن الأسرى، والمصالحة الفلسطينية، ثم الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلى حول التسوية. والحقيقة أن مثل هذه الخطوات لم تكن ممكنة دون التقدم الذي جرى بعقد المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية تحت السقف التركي، وبطريقة تبدو كما لو كان أطرافها واثقين هذه المرة من نجاحها، أو أنها في هذه اللحظة تسير في الطريق الصحيح لتحقيق هذا الهدف.

كل ذلك يعطي معنى حقيقيا لما قاله وزير الخارجية السوري وليد المعلم من أن كل التطورات الجارية في المنطقة كانت جزءا من حزمة واحدة طالبت بها سوريا طوال الوقت. ولكن الأمر من جهة أخرى يذكرنا بتقرير بيكر ـ هاملتون في نهايات عام 2006 والذي قدم حزمة من التوصيات للحكومة الأمريكية للتعامل مع المسألة العراقية من خلال منهج إقليمي متعدد الأبعاد. ولعل ذلك يعكس مصداقية القول إن المنطقة كلها تشكل نطاقا استراتيجيا واحدا تترابط فيه المشكلات والمصالح الاستراتيجية ويكون شرط التقدم في أي منها مرتبطا بالتقدم في المجالات الأخرى في نفس الوقت وبنفس السرعة.

هذا الموسم العام للتهدئة في المنطقة غريب في العموم، وهو في جميع جوانبه يعكس صفقات متعددة مع القوى الراديكالية ـ إيران وسوريا وحزب الله وحماس ـ التي قدمت قدرا غير قليل من المرونة والجرأة في الاقتراب من الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكن القوى المعتدلة قادرة عليها من قبل. وللوهلة الأولى فإن مثل هذه التطورات تمهد لوفاق عام في المنطقة، ولكنه لا يتم بين أطرافها المختلفة، وإنما بين الأطراف الراديكالية الإقليمية والولايات المتحدة والغرب عموما وفق صيغ مرنة تقلل العنف وتخفف من التوتر. وبشكل عام ربما كان لفظ «التهدئة» مناسبا وإضافة جديدة لتعبيرات التفاعلات الدولية المختلفة الدرجات العدائية.

ولكن المعضلة في مثل هذه الحالة، كما كان الحال في السبعينيات في أوروبا بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، أنها تبقي التناقضات على عمقها، وأن كل طرف لن يتوانى عن انتهاز فرص متاحة. أما الأخطر بالنسبة للقوى المعتدلة في المنطقة أن التنازلات الإقليمية التي تتضمنها التهدئة تأتي على حسابها من حيث التسليم بدور خاص لسوريا في لبنان، أو القبول بانقلاب حماس في غزة باعتباره وضعا دائما أو على أقل تقدير مستقرا، أو بدور خاص لإيران في الخليج ولبنان. ولا يقل عن ذلك أهمية أن بعضا من هذه التنازلات الإقليمية متناقضة في أغراضها، فالصفقة مع سوريا لا تحتوي فقط على نفوذ في لبنان، وتحرير للجولان، ولكنها تتضمن أيضا فك الارتباط مع طهران وحزب الله معها خاصة لو تمت التسوية السورية ـ الإسرائيلية وهو ما سيحرم القوى الراديكالية واحدة من أهم أسلحتها الأيدلوجية والسياسية ممثلة في القضية الفلسطينية.

مثل هذه التناقضات كانت هي التي قلبت حال «الوفاق» في التجربة الأوروبية، وحولتها بعد قليل في نهاية السبعينيات إلى ما عرف بالحرب الباردة الثانية التي لم تنته إلا مع وصول جورباتشوف للحكم ومن بعده انهيار المشروع الشيوعي السوفيتي. وبالطبع فإن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه يقدم لنا مؤشرات ودروسا وعبرا؛ والشرق الأوسط ليس أوروبا، وإيران والراديكاليات العربية والإسلامية ليست في قوة وامتداد المشروع الاشتراكي. ولكن وكما يقال، فإن ضعفه يمثل سر قوته، وقدرته على الانسياب وتغيير المجتمعات والدول بوسائل مختلفة لا يزال ممثلا لحدود تناقض متفجر.

ولكن التاريخ ليس قضيتنا الآن، وإنما قضية المنطقة هي عملية تحضير واسعة النطاق لتغيرات مؤثرة في توازنات القوى سوف تفرض نفسها على الرئيس الأمريكي القادم ومعه تحالف واسع سوف يسعى إلى بنائه مع الدول الغربية. فأيا كان الرئيس الأمريكي الجديد فإنه سوف يعكس منهج جورج بوش الابن الذي قام على أن تقود الولايات المتحدة وعلى الآخرين أن يتبعوها إلى نهج آخر وهو أن تقود الولايات المتحدة بمشاركة الآخرين خاصة مع بقية أركان المعسكر الغربي. وهكذا فإن الأوضاع في المنطقة لن تكون مفروضة على أمريكا وحدها، وإنما سيكون معها تحالف دولي واسع النطاق سوف تكون مهمته أولا التخلص من الهم العراقي وما تركه من تركات ثقيلة متعددة الأشكال، ومن بعدها ثانية العودة إلى مهمة تنظيم الكون التي بدأت مع تكثيف العولمة في عهد بيل كلينتون. وفي الحالين سوف يكون للشرق الأوسط نصيب وحظ!!