انفراجات المنطقة.. مجرد «حَمْلٍ» كاذب وانتظار لما بعد بوش!!

TT

صعب تصديق كل هذا الذي جرى في الاسابيع القليلة الماضية فبينما الأمور، امور المنطقة الساخنة، كلها كانت تتجه نحو الانفجار انقلبت الاوضاع رأسا على عقب وتغيرت اتجاهات الرياح وهدأت العواصف فجأة وبدل الحديث عن اندلاع الحروب التي تنتظر لحظة الصفر، الحرب الأهلية في لبنان والاجتياح الاسرائيلي لقطاع غزة وحرب الأخوة الاعداء بين منظمة التحرير وحركة «حماس» والحرب المرعبة بين ايران والولايات المتحدة، انضبط الجميع بـ «أوركسترا» السلام والتصالح والتهدئة والتزم العازفون باشارة ضابط الايقاع الذي غير معروف حتى الآن ما اذا كان هو طيب رجب اردوغان ام حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني أم كلاهما ومعهما قوى خفية لا يعرفها إلا العلي القدير والراسخون في العلم.

كانت سوريا، بعد حرب «الانتصار الالهي» لصاحبه حسن نصر الله، قدس الله سره وسر صاحب السر الحقيقي الذي يقف خلفه والذي وقف خلف انتصاراته، تلوِّح بحرب التحرير الشعبية «الطويلة الأمد جدا» وكانت تؤكد وتواصل التأكيد على انها ترفض المفاوضات السرية مع اسرائيل وان عنوان سياستها في هذا المجال هو ان كل شيء فوق الطاولة، وكان شرطها للعودة الى مسار المفاوضات «من حيث انتهى» هو انه لا أقل من «وديعة رابين» وان الانسحاب الاسرائيلي، حتى يكون هناك سلام، يجب ان يكون حتى حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967.

وأيضا كان التحالف الاستراتيجي مع «الشقيقة» ايران دونه جز الحلاقيم وخرط القتاد وانه من غير الممكن المساومة على هذا الأمر. ولقد قال الذين يعرفون المعادلة السورية من الداخل، أي معادلة الحكم، ان القرار السوري الذي لا قرار غيره مهما حدث ومهما حصل هو ان استعادة الجولان كله وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، وحسب «وديعة رابين» لا يمكن ان يكون ثمنها رأس هذا التحالف الذي جاء ليس لأسباب سياسية فقط وانما قبل هذا نتيجة لتوفر اللحظة التاريخية التي طال انتظارها.

كان الاعتقاد الذي لا يزال سائدا لدى البسطاء وطيبي القلوب انه بالامكان فصل التوأم السيامي السوري ـ الايراني وان سوريا بمجرد التلويح لها بمفاوضات مباشرة وغير مباشرة وسرية أو علنية لا فرق فإنها ستخلع صاحبها كما خلع أبو موسى الاشعري خاتمه في حادثة التحكيم الشهيرة في الاسلام وان ايران صاحبة الثورة المستقرة وشعار وراء الاسرائيليين والاميركيين في كل مكان والى آخر الزمان سوف تنأى بنفسها بعيدا وسوف تفك عرى حلفها التاريخي هذا الذي تراهن عليه كأحد اسلحة الثأر التاريخي الذي لم ينم في صدور آيات الله منذ أكثر من ألف عام بمجرد ان تسمع بأي لقاء حتى وان لم يكن وجهاً لوجه بين متفاوضين سوريين واسرائيليين.

لكن هذا لم يحدث وهو لن يحدث أبدا فكل ما يهم ايران من هذا الثأر التاريخي الذي بقي مستيقظا في صدور المعممين وآيات الله زهاء ألف واربعمائة عام هو ان تستعيد امجاد الماضي وان تسترجع مجالها الحيوي في المنطقة. ولقد ثبت انه بينما كانت المفاوضات غير المباشرة تجرى في اسطنبول برعاية واستضافة «طيب الذكر» أردوغان كانت هناك مفاوضات تجري في مكان آخر هدفها التوصل الى صفقة العمر وانجاز المساومة التاريخية بين الشيطان الاكبر، الولايات المتحدة، وبين الولي الفقيه وعلى اساس التسليم للايرانيين بالدور الاقليمي الذي يسعون اليه في اطار ضبط الاوضاع الامنية في هذه المنطقة ووفقا لمعادلة كل واحد يعرف حدوده وحدود غيره.

اذن هكذا سارت الامور وهكذا هي ستسير في المستقبل فكل طرف «يُقني» لصاحبه،.. السوريون يُقنُّونَ للايرانيين والايرانيون يُقَّنوُّن للسوريين والهدف هو اعادة صياغة الخريطة السياسية للشرق الأوسط وكل هذا في اطار التفاهم مع «الاستكبار العالمي» ومع اسرائيل أيضا.. لم.. لا؟

لكن السؤال الذي يجب ان يطرح، بينما اندفعت كل هذه التطورات نحو المنطقة وقلبت مزاجها من انتظار اكثر من مواجهة تشكل كلها الحرب الاقليمية المتوقعة الى انتظار السلام المنشود، هو: بغض النظر عن رغبات بعض الأطراف هل يا ترى أن كلَّ هذا الذي يُرى هو مجرد «حَمْلٍ» كاذب ومجرد تجميد للأمور عند الحدود التي وصلت إليها انتظاراً لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة ورحيل الرئيس الأميركي جورج بوش عن البيت الأبيض ومجيء إدارة جديدة..؟!.

المؤكد أن اللقاء الذي تم الترويج له بين الرئيس الأسد وبين رئيس الوزراء الاسرائيلي أيهود أولمرت، إن في باريس وإن في غير باريس، غير متوقع في المدى المنظور، والمعروف أنه نسب لمصدر سوري قيل انه مطلع على سير المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية «غير المباشرة» قوله إن انتقال هذه المفاوضات إلى الصيغة المباشرة لا يزال وقفاً على دخول واشنطن إلى طاولة المفاوضات «وهو أمر لا تزال تتمنع عنه» واللافت أن هذا المصدر المطلع نفسه قد قال أيضاً: «إن تسوية وضع مزارع شبعا يجب أن تتم في إطار عملية مدريد.. ومقابل ماذا نقوم بحل مشكلة الاسرائيليين في شبعا ونقوم بترسيم الحدود»..؟.

وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أمس الأول، تساءل أولمرت: «هل يعقل ان نوقع اتفاق سلام مع سوريا ونفتح سفارة في دمشق ويفتحوا سفارة في تل أبيب ونقيم علاقات اقتصادية وتجارية وطيراناً وسياحة وتظل علاقات دمشق وطهران كما هي.. نحن لا نستطيع ان نقف مكتوفي الأيدي إزاء التسلح النووي لمن يهدد صباحاً ومساءً بإبادة إسرائيل»؟!.

وهكذا وعندما تكون المفاوضات «غير المباشرة» غير سالكة خلافاً للرغبة السورية وعندما ينجح أولمرت في استخدام هذه «الانفراجات» التي داهمت المنطقة دفعة واحدة كطوق نجاة للتخلص من كل التحديات الداخلية وإعادة تأهيل نفسه للاستمرار في مواقع المسؤولية، وعندما ينهار اتفاق الدوحة عملياً بالصورة المأساوية التي تجري الآن وعندما لا يتقدم الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني ولو خطوة واحدة وعندما لا تزال تهدئة غزة معرضة للانهيار في أي لحظة فإن هذا يعني أن هذه المنطقة تعيش مرحلة «حَمْلٍ» كاذب وأن كل ما في الأمر أن رغبات أطراف الصراع التقت عند نقطة واحدة هي الانتظار وتأجيل الاستحقاقات المتبادلة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة التي يسود اعتقاد أنه ستتوقف على نتائجها الكثير من المسائل العالقة في الشرق الأوسط وفي مقدمتها عملية السلام على المسارين الفلسطيني والسوري والأوضاع العراقية غير المستقرة.

لقد كانت هناك مبالغة وكان هناك إفراط في التفاؤل بعد الكشف عن المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية التي لا تزال تتواصل في اسطنبول، وبعد حفلة تبادل تبويس اللحى في الدوحة وأيضاً بعد صفقة التهدئة بين «حماس» والحكومة الاسرائيلية وبعد العودة للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني الذي أخذ المتحاورين إلى السنغال في غربي أفريقيا لكن ها هي الحقائق على الأرض بالنسبة لكل البؤر المتأججة تثبت أن «حَمْل» هذه المنطقة بالتهدئة والاستقرار هو مجرد حَمْلٍ كاذب وأن كل ما في الأمر انه كان لا بد من هدنة حتى الانتهاء من معركة انتخابات الرئاسة الاميركية المقبلة.