وللاحتجاج أشكال.. لمواجهة غلاء الأسعار

TT

مهما تعددت أسباب وطرق الاحتجاج في العالم، لكن الأفق المنشود يبقى واحدا. احتجاج من أجل التغيير، من أجل قول خطاب آخر غير ما ألفناه، من أجل البحث عن البدائل، من أجل إيصال صوتنا الذي طالما استكان للصمت، للقائمين بزمام الأمور وإعلامهم بوجودنا، الذي ربما نسوه أو تناسوه في زحمة انشغالاتهم.

فالاحتجاج لغة عالمية، وإن كانت الدول الديمقراطية المتحضرة قد أتقنتها وبدأت تتحدثها بطلاقة لخبرتها ومرانها الطويل في المسار الديمقراطي، فإن الدول المتخلفة، أو تخفيفا من حدة الإهانة، الدول السائرة في طريق النمو، مازالت تتهجى أبجدياتها، ومازالت تتأرجح بين خط سلمي مهادن، وهو نادر، وخط عنيف دموي يؤجج زناده عنف آخر مضاد، بشكل ينذر بالكارثة، والكل على علم بموجة الاحتجاجات التي اكتسحت العديد من الدول العربية كمصر وتونس والمغرب والجزائر واليمن والأردن، احتجاجات أغلبها سوسيو اقتصادية، تمس عمق الحياة المعيشية للمواطنين، وتصرخ من أجل قوتهم اليومي، وتناهض أشكال الغلاء الفاحش والمرتبط أساسا بتقلبات السوق العالمية، هو احتجاج ضد البطالة، ضد ارتفاع أسعار الوقود، ضد الفساد السياسي، ضد الفراغ السياسي والإداري... وضد الفوارق الطبقية التي ازدادت اتساعا في العديد من الدول العربية بشكل مهول ولا يبشر بخير.

وإذا كان البعض يرى الاحتجاج في وطننا العربي بعين سلبية غير راضية عن وضع اجتماعي وسياسي واقتصادي متدهور، فإنني أراه أيضا شكلا من أشكال التحضر، واتساع مساحة التعبير والحرية، وخاصة إذا كان احتجاجا سلميا، مرخصا قانونيا، وتتم معالجته معالجة تتفادى ما أمكن المقاربة الأمنية.

أرى الاحتجاج نوعا من التفريغ السيكلوجي للغضب، بشكل يمنحنا نوعا من التوازن النفسي، ربما وجهة نظري هاته قد تفرغ الاحتجاج من حمولته الآيديولوجية، وتمنحه بعدا نفسيا، وهو ما لا يبتغيه أي مواطن عربي، الذي يطمح إلى أكثر من تنفيس عن تراكماته النفسية، يطمح إلى التغيير، وإلى حلول ناجعة لمشاكله، مثلما يحدث في الدول المتقدمة، فهاته الشعوب المتحضرة تمارس حقها في التظاهر السلمي الهادئ، الذي يكون أشبه باحتفال شعبي، لكنها في المقابل تلقى آذانا صاغية، مثلما حدث في فرنسا في شهر يونيو الجاري من احتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود، وضد نظام التقاعد، فالاحتجاج عندهم يرهب المسؤولين، رغم صوته الخافت الهادئ، وقد تتحول الاحتجاجات إلى حزب سياسي يشارك في السلطة، لكن الاحتجاجات في وطننا العربي، وإن رفعت عقيرتها بالصراخ، وإن تكررت، فقد غدت أشبه بطقس يومي مألوف، لا يحرك أي ساكن، بل يتم التغاضي عنه أو ردعه بالعنف، بشكل يدفع بعض المحتجين إلى ابتداع تقنيات أخرى أكثر فظاعة، كإضرام النار في الجسد، أو تناول المواد السامة، ليتم إخراس صوت الاحتجاج إلى الأبد.

والاحتجاج في وطننا العربي لا يمكن حصره فقط في تجمعات وتجمهرات وإضرابات واعتصامات، بل يتجلى في أشكال أخرى متباينة، كالهيب هوب كظاهرة غنائية جديدة اكتسحت العديد من الدول العربية، والتي لاقت معارضة من البعض وترحيبا من البعض الآخر ممن آثروا ترك هؤلاء الشباب في حضن غريب عنهم، ولكنه بديل عن حضن المجتمع والدولة، والإبداع هو كذلك أحد أشكال الاحتجاج، فالمبدع لا يطمح سوى إلى هامش صغير للبوح والتعبير والاحتجاج، ومساحة صغيرة بعيدا عن السلطة والمجتمع كي يبصر أحسن وينتقد أكثر. والكاتب اللبناني أمين معلوف يرى أن اللحى والحجاب علامة الاحتجاج التي مارسها بعض العرب ضد السيطرة الغربية، سواء باللجوء إلى الماركسية أو إلى الأصولية الإسلامية.

كما أن ضعف المشاركة في انتخابات 2007 وفي مسيرات الاحتفال بعيد الشغل يوم فاتح ماي 2008 بالمغرب، يعكس نوعا من الاحتجاج، وفقدان المصداقية في الأحزاب والتنظيمات النقابية، ناهيك من بعض الجرائد المغربية المستقلة التي تنشر بالمغرب، والتي استفادت من هامش الحرية الذي عرفه المغرب أخيرا، وعكست بشكل جلي شكلا من أشكال الاحتجاج المكتوب، لكونها نحت منحى مغايرا للجرائد الحزبية، كما نلمس في خطاباتها نوعا من الغضب وعدم الرضى المضمرين، ورغبة أكيدة في التغيير والقضاء على كل أشكال الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وأنا أتحدث عن الاحتجاج، أتذكر ما حدث في قطاع غزة، حين «احتجت» الحيوانات الأليفة على الحصار الجائر المفروض على الشعب الفلسطيني، وذلك أمام المقر الرئيس للأمم المتحدة في مدينة غزة، وتجمع أكثر من 50 خروفاً وعشرة جمال ومثلها من الأحصنة وعدد من الحمير أمام مقر الممثل الخاص لنشاطات الأمم المتحدة والأمين العام في مدينة غزة احتجاجاً على الحصار المفروض، كان لا بد من احتجاج من طينة أخرى، وتأثير أكثر إثارة ونجاعة وفعالية، بعدما بردت وتبلدت الاحتجاجات العربية ووهنت، «احتجاج حيواني» يليق بوحشية المجازر وبشاعتها وتمثيلها بالأجساد العربية والاستمتاع بصورها في الهاتف الخلوي من طرف الجندي الإسرائيلي، كان لا بد من صوت آخر وإن كان أخرس، يصل للآخر بعدما بحت أصوات الشوارع العربية ولاذت إلى الصمت منظمة الأمم المتحدة «راعية حقوق الإنسان»، كما تزعم، وعصبة الأمم والحكومات العربية، مسيرات وانتفاضات عربية تتكرر هي أيضا في الشوارع العربية، ربما غدت في لاجدواها وفي برودتها أشبه بالقمم العربية السابقة، لكن مع ذلك، تتفوق هاته المسيرات العربية على قممنا العربية في التنفيس عن غضب عربي وإفراغ الألم العربي المكبوت، والتخفيف من عبء المأساة عندنا.

لكن ما فائدة إطفاء غليل نار تنهشنا، وترك نار فلسطينية موقدة تلتهم أجسادهم بشكل تنفطر له القلوب وتقشعر له الأبدان؟

ما فائدة هذا الصراخ، إن كان للأسف لن يوقف أنهار الدم الفلسطينية والعراقية، ولن يحد من بشاعة المجازر الإسرائيلية تلك التي استمتعت وتفننت في صنع دولة على أنقاض الجثث والرضع والعوائل... بدءا من مذبحة بلدة الشيخ مرورا بمذبحة دير ياسين... ومذبحة المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي... ووصولا إلى المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في شرق جباليا بقطاع غزة واستشهد فيها 135 مواطنا، إضافة لمئات الجرحى؟

ويكفي قتل جندي إسرائيلي واحد ليفرض على الشعب الفلسطيني حصار تجويعي وقصف دموي يوميا ونسف لمحطات الماء والكهرباء.. فأرواح الصهاينة وحليفتها صانعة خارطة جديدة لشرق أوسط جديد وتلك التي كانت وراء وعد بلفور، أو تلك التي تحس بمسؤوليتها عن الماضي وعن مشروع نازي للإبادة اليهودية، والذين يصرحون كلما أتيحت لهم الفرصة بأن أمنهم من أمن إسرائيل، فأرواحهم طبعا أغلى من أرواحنا العربية التي لم تعد تساوي كيس طحين، أو كما يقول نزار قباني «كلنا في نظر الحاكم أكياس طحين»، ولو كان شاعرنا حيا يرزق الآن لفطن إلى أننا لا يجوز أن نشبه أنفسنا حتى بأكياس الطحين التي غلا ثمنها في العالم العربي ولم يعد رغيف الخبز صديق البسطاء كما كان، بل علا شأنه وتسبب في أزمة تضاف إلى أزمات أخرى عند الشعوب العربية.

للأسف تعددت أزماتنا العربية وتباينت، وفي نفس الآن تمظهرت احتجاجات الشارع العربي في ألوان شتى، أبدع وتفنن في صنعها المواطن العربي، بحرقة وألم خاصين، وصوت مبحوح، طمعا في التغيير، وإيجاد حلول لمشاكله الداخلية وللقضايا العربية العالقة، لكنها احتجاجات وإن علا صوتها، لم تسعفه سوى في التنفيس عن غضب عربي مكبوت ومتراكم. لكن ما مصير مشاكله الداخلية المتراكمة؟

* شاعرة وكاتبة من المغرب