ملامح.. «فورة خريف»

TT

في أوساط من يتعاطى زراعة الاشجار المثمرة في جبل لبنان وصف متعارف عليه للشجرة المعمرة التي تورق فجأة وتحمل ثمارا بأعداد تفوق مواسم حملها في «ريعان صباها».

في التعبير اللبناني الجبلي يوصف هذا الحمل السخي للشجرة المتقدمة في العمر بـ«فوشة (فورة) الخريف»، وهي «فوشة» يقول المزارعون انها تحدث عادة في سنة العطاء الاخيرة للشجرة فتجود استثنائيا بأفضل حمل من ثمارها... قبل أن تذوي وتجف عروقها. ذكرني بهذه الظاهرة الارتفاع الخيالي لأسعار النفط الخام، فرغم ان للارتفاع القياسي لاسعار النفط أسبابا لا تعود الى دورة العمر ـ كما الحال في الاشجار المثمرة ـ لا يبدو مستبعدا ان يؤدي استمرار ظاهرة ارتفاع الاسعار إلى «فوشة خريف» نفطية تلوح ملامحها في تسريع الدول المستهلكة لاختبارات تطوير المصادر البديلة للطاقة.

قد يقال ان تجارب استنباط الطاقة البديلة للنفط جارية على قدم وساق منذ أكثر من عقد على الاقل وإنها لم تسجل، حتى الآن، «اختراقا» يذكر، على اعتبار ان جدوى الطاقة البديلة ترتبط بمستوى سعره (المفترض ان يكون موازيا أو الارخص من اسعار المشتقات النفطية) وبعملانية استعماله (المفترض ان تكون مشابهة أو اسهل من استعمال النفط).

الا ان ما نشهده من تصميم مجموعات متخصصة من الفيزيائيين والبيولوجيين والمهندسين في العديد من الدول المستهلكة للنفط على تطوير «البديل» للطاقة النفطية، وما نسمع عنه من انفاق سخي على هذه التجارب، يوحي وكأن الغرب يشعر بان موسم استعمال النفط بلغ «خريفه».

والمفارقة الواجب تسجيلها على هذا الصعيد أن الارتفاع الحاد في اسعار النفط، الذي تهلل له بعض الدول المنتجة، يزيل تدريجيا ـ ان لم يكن قد أزال فعلا ـ عامل السعر كلاجم اساسي للمنافسة بين الوقود التقليدي وبدائله، فالسيارة العاملة بالطاقة الكهربائية أو بالوقود الحيوي إو حتى بالطاقة الهيدروجينية قد يصبح استعمالها أرخص من استعمال السيارة العاملة بالوقود التقليدي. وقد يكون المؤشر الاولي على ذلك ان الطراز المخضرم، أي السيارة «الهجين» الجامعة بين الوقود العادي والكهرباء، تزداد شعبيتها في الاسواق الغربية مع ارتفاع اسعار النفط، من جهة، وازدياد الحس العام بشؤون البيئة، من جهة أخرى.

والواقع ان السيارة «المستغنية» عن الطاقة النفطية لم تعد بعيدة المنال في حال صح ما اعلنه المدير التنفيذي لنيسان اليابانية، كارلوس غصن، عن ان شركته ستباشر الانتاج التجاري للسيارة الكهربائية بحلول العام 2012، وفي حال تعممت تجربة شركة هوندا للسيارة العاملة بالطاقة الهيدروجينية.

ولن يكون مستبعدا ايضا، إذا استمرت مسيرة اسعار النفط في الارتفاع، وفي المقابل التوسع في مشاريع إقامة «طواحين الهواء» (Wind Mills) المنتجة للكهرباء بالطاقة الهوائية، أن يصبح القطاع النفطي «دون كيشوتا» جديدا في معركة أسعار خاسرة... مع «طواحين الهواء» هذه المرة، خصوصا بعد ان أصبحت اسعار الطاقة الهوائية في العديد من الدول الاوروبية أدنى من أسعار الغاز (المتضامنة مع اسعار النفط).

وكأن هذه البدائل غير كافية لخلع النفط عن عرش الطاقة في العالم ليبشرنا الغرب، وإن متأخرا بعض الشيء، بمشاريع جدية لتطوير الطاقة الشمسية أيضا لتصبح مضاربا جديدا للنفط... في عقر دياره المشمسة.

لن يعني تحول سيارات ومركبات المستقبل عن النفط الى الطاقات البديلة نهاية الحاجة الى النفط ولكنه قد يؤدي الى تراجع الطلب على المشتقات النفطية عن العرض بحيث تبدأ المسيرة العكسية لأسعارها.

ولأن النفط الخام مادة ناضبة في نهاية المطاف، يعتبر تطوير الطاقة البديلة له مهمة لا تستوجبها سلامة البيئة بقدر ما تفرضها الاحتياجات الانسانية. ولكن ذلك لا يبرر تسريع عملية الاستغناء عن النفط، قبل بلوغه السن الطبيعية لتقاعده، ولا يبرر تحديدا التغاضي عن تأثير اسعاره الخيالية على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لعالم اليوم، ولا الاستخفاف بتحول هذا السعر الى حافز ملح لتسريع تطوير الطاقات البديلة.

وإذا كانت الأزمة الراهنة برهنت أن أسعار النفط «قضية عالمية» تتحمل كل الدول مسؤولية ضبط اسواقها فذلك لا يعفي منظمة «أوبك» من مسؤولية السعي منذ الآن الى التوصل إلى سعر عادل للبترول لا يضر المنتجين ولا المستهلكين.