الصوفية والسفسطة والسياسة

TT

إن ضرب المنشآت النووية في الجمهورية الإسلامية سيحول الشرق الأوسط إلى «كرة من اللهب». جاء هذا التحذير على لسان مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي. ومقولة «كرة من اللهب» تعبير فيه صورة شعرية، تساءلت من أين أتى. وفكرت في أغنية جوني كاش الشهيرة «دائرة اللهب». ولكن قال لي أحد الأصدقاء إن هذه الصورة جاءت في قصيدة لأحد أعلام الصوفية المصرية وهو ابن الفارض.

إن المصريين، بالإضافة إلى إبداعهم في إطلاق النكات، لديهم قدرات شعرية يعرفون بها. ولكن الأمر غير المحمود هو استخدام الاستعارة الخيالية في مجالات تتطلب تحليلا واقعيا. والسياسة أحد هذه المجالات.

عندما أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شن حرب عام 1967 وأسماها «فجر النصر»، في استعارة من ابن الفارض، بدا خطابه عظيما على إذاعة صوت العرب، ولكنه لم يكن كذلك في أرض المعركة.

وفي عام 1990، كان الدور على صديقي محمد حسنين هيكل، وهو مصري عظيم آخر، ليقرأ لابن الفارض ويستعير منه عبارة «طوفان اللهب» لتحذير هؤلاء الذين أرادوا طرد صدام من الكويت المحتلة.

وفي عام 2002، استعان عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية، وهو مصري أيضا، بتعبير مكرر من ابن الفارض. وبدلا من أن يفعل أي شيء لمنع الحرب على العراق، خرج يصيح أن «أبواب الجحيم» على وشك أن تفتح.

ولنعد الآن إلى البرادعي، وهو أحد المصريين العظماء أيضا. وهو ملزم بالتحفظ نظرا لكونه دبلوماسيا وموظفا مسؤولا عن إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة. يعني هذا أنه لا يجب عليه استخدام موقعه لتغيير تعبيرات الحوار الدولي حول موضوعات تتعلق بوكالته.

ولا يخيف تعبير «كرة من اللهب» أحدا، ولا يفيد كثيرا عند الحديث عن مشكلة خطيرة. إن مهمة البرادعي الأساسية هي إثبات ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية، كما تدعي الولايات المتحدة وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي، تنتهك شروط معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. فإذا أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن طهران لا تحاول أبدا صنع قنبلة نووية، فلن يحتاج إلى استخدام استعارة خيالية لمنع الحرب. وعلى جانب آخر، إذا لم يتمكن من إثبات ذلك، أو على أسوأ تقدير شعر أن العكس هو الصحيح، فلا يجب عليه أن يمد يد العون لدولة تنتهك معاهدة هو المسؤول عن حمايتها.

على أية حال، يجب على البرادعي أن يخبر العالم ما المقصود بـ«كرة من اللهب» التي يتحدث عنها. يتكون الشرق الأوسط الكبير، الذي من المفترض أن يكون «كرة من اللهب»، من 25 دولة تمتد من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي. فهل يحرق الباكستانيون أو المغاربة أوطانهم للاشتراك في «كرة من اللهب»، لأن نظام الخميني منع من الحصول على قنبلة نووية؟ وهل يدخل الأتراك والجزائريون في «كرة من اللهب» ليظهروا تضامنهم مع نظام ساعد الجماعات الإرهابية على القيام بهجمات ضدهم لعدة عقود؟

وليس من المرجح أن يخاطر حتى الحكام في سورية ببقائهم بمحاولة الدخول في «كرة من اللهب» إرضاء للملالي. فهم يحبون أموال الملالي وليس الملالي أنفسهم.

وعلى الرغم من انتشار عطاء طهران في الأعوام الأخيرة، إلا أن المرء يشك في أن حماس والإخوان المسلمين عامة سيخاطرون بإظهار التضامن مع نظام يحاول فرض سيطرة آيديولوجية، على الرغم من كرمه.

وهكذا تتبقى فروع حزب الله، وخاصة الفرع اللبناني الأكبر والأفضل تمويلا. ولكن، كما هو الحال دوما، تصدر القرارات الخاصة بما يفعله حزب الله من طهران وليس من بيروت.

ولكن على النقيض من نظرة البرادعي الأخروية، إذا اقتصر الهجوم على المواقع النووية، فلن يزيد أتباع الخميني من حدة الصراع. بل سيخففون من هذه الحدة، لوقف حرب قد تؤدي إلى تغيير نظام الحكم في طهران. فلا يهتم أتباع الخميني بإيران أو حتى بالإسلام، وقد ذكروا ذلك مرارا. فإن هدفهم الأساسي هو بقاء نظام حكمهم. ويعطي دستورهم الحق «لمرشدهم الأعلى» في تعليق حتى القواعد الأساسية في الإسلام إذا تطلب الأمر لحماية النظام. فهم يعتبرون أنه لن توجد إيران ولن يوجد إسلام بدون نظام الخميني. وقد حذر قائد الحرس الثوري الجمهوري الذي أطيح به منذ عدة أشهر، الجنرال يحيى صفوي، من أن خيارات طهران العسكرية محدودة.

أحد هذه الخيارات هو غلق مضيق هرمز، مما يعطل إمدادات البترول. ويمكن القيام بذلك عن طريق زراعة ألغام في مجرى الماء. ولكن من الممكن إزالتها من الماء بسرعة. وحتى إن ظل المضيق مغلقا لعدة أسابيع، فسيكون الخاسر الأول هو الجمهورية الإسلامية التي تعتمد على عائدات البترول بنسبة 80 في المائة من ميزانيتها. وسيؤدي غلق المضيق إلى وقف واردات البنزين التي تصل إلى 48 في المائة من الاستهلاك الإيراني. وسينفد الوقود الذي يحتاج إليه الحرس الجمهوري الإيراني لسفنه المدفعية ومروحياته. كما أن الجمهورية الإسلامية تستورد نصف الغذاء الإيراني؛ وغلق الطرق التجارية يعرض الملايين للجوع.

ماذا يمكن أن يفعل النظام أيضا لتكون المنطقة «كرة من اللهب» كما ذكر البرادعي؟

من الممكن أن تغزو قوات الحرس الثوري الجمهوري العراق وأفغانستان، وأن تقوم بأعمال تخريب بالاستعانة بعملائها داخل البلاد. ولكن ما المصلحة التي ستعود على الملالي في ذلك، بخلاف تحريض العراقيين والأفغان ضدهم؟

وليس من المرجح أن تغزو الجمهورية الإسلامية تركيا لضرب قواعد الناتو. ومن الصعب أيضا تخيل غزو باكستان. بينما لن يسفر دخولها أذربيجان وتركمانستان، على الرغم من إمكانية ذلك، عن أية نتائج عسكرية إيجابية بالنسبة لخبراء نظام الخوميني الاستراتيجيين. وليس محتملا أيضا أن يحاول الحرس الثوري الجمهوري زيادة حجم «كرة اللهب» بغزو روسيا أو كازاخستان.

وقد يقرر الملالي أن يطلقوا صواريخ على منشآت البترول في دول الخليج. ولكن هذا أيضا يبدو سهلا في القول والفعل، ولكن سيتأكد من قد يرغب في ضرب الجمهورية الإسلامية من تدمير قواعد إطلاق الصواريخ لديها أولا.

في عام 2005، حذر الرئيس أحمدي نجاد من أن أي هجوم على الجمهورية الإسلامية سيرفع سعر برميل البترول إلى «أكثر من 100 دولار»، وقد وصلنا إلى هذا السعر منذ عدة أشهر بدون حرب، ولم يحدث شيء.

يجب على هؤلاء الذين يريدون منع الحرب ألا يشجعوا أتباع الخوميني على الاستمرار في التوهم بأنهم يمكنهم ابتزاز أقوى خصومهم بالحديث عن ارتفاع أسعار البترول، والهجمات الانتحارية، ونعم، «كرة اللهب». إذا اندلعت الحرب، فستكون هناك «كرة من اللهب». ولكنها ستكون في إيران فقط، ليس في الشرق الأوسط بأكمله. لهذا على الموجودين في القيادة في طهران، الذين مازالوا يحبون إيران تحت نظام الخوميني أو بدونه، أن يخبروا زملاءهم المتطرفين معتنقي الأيديولوجية الجنونية أن الحرب ليست كما ادعى الخوميني «نعمة من الله»، بل هي لعنة من الشيطان. ومن خلال النظرة العامة للأشياء، فقد يكون للصوفية مقامها، ولكن دخولها في السياسة يعد سفسطة.