السلام في الشرق الأوسط في ظل الغموض

TT

للاستراتيجية، تناقضها العضوي ـ المفهومي الخاص بها Paradox. فما هو السبب مثلا، الذي يجعل قائدا عسكريا ـ أو سياسيا، يتخذ قرارا ما يتناقض مع طبيعة الأمور ومنطقها؟

في الاستراتيجية، الخط المتعرج يبقى أطول من الخط المستقيم بالطبع، وهو حتما أكثر كلفة، لكنه على الأقل يُوصل إلى النصر لأن العدو، وبحسب تركيبته الطبيعية ـ البشرية، سوف يحسب أول ما يحسب في تخطيطه العسكري، إمكان اتباع الخط المستقيم، وعليه سوف يبني أهم دفاعاته. من هنا خيار الخط المتعرج. ولعل أفضل تعبير للتناقض في الفكر الاستراتيجي، وحسب المفكر ادوارد لوتواك هو: «إذا كنت تريد أن تبقى نحيفا، فما عليك إلا الإكثار من الطعام».

تسعى الاستراتيجية أكثر ما تسعى إلى اعتماد اللامتوقع قدر الإمكان، فقط كي تحدث المفاجأة. وهناك المفاجأة الاستراتيجية، كما بيرل هاربور و11 أيلول، وهناك المفاجآت على الصُعد العملانية والتكتيكية.

والمفاجأة عادة تتطلب زرع الغموض، ووضع الكثير من الحجُب أمام الخصم كي نشوش فكره ووعيه، ليصبح قراره الاستراتيجي خاطئا. أوليست السياسة، وبالتالي الاستراتيجية، علمين يقومان على مدى صحة الإدراك او خطئه لواقع معين؟

من يدرك أو يعي بطريقة خاطئة، سيخطط بطريقة خاطئة، ليأتي تنفيذه كارثيا، فتُدفع الأثمان.

من هو قادر على استيعاب الأثمان والاستمرار دون تردد، نُطلق عليه عادة في العلم السياسي والاستراتيجي، تسمية «القوى الكبرى». لذلك تُرتب عادة الهرمية العالمية للدول، استنادا الى قدرة استيعابها للأثمان نتيجة الخطأ في الإدراك. فهل يمكن أن ننسى حرب أميركا على فيتنام؟

تزرع أميركا الكثير من الغموض في المنطقة. فبعد أن خسر بوش الكونغرس، اعتبر الكل أن الانسحاب الأميركي العسكري من العراق قد أصبح وشيكا. فرد بوش بزيادة عدد الجنود، أي أنه زرع الغموض والإدراك الخاطئ لدى ايران. بعد حرب تموز 2006 على لبنان، اعتقد البعض أن التغيير السياسي في إسرائيل قد أصبح أكيدا. فأتى تقرير فينوغراد لينقذ أولمرت، وليضع الكثير من الضغوط على الجيش الاسرائيلي.

بعد التقرير اعتمدت إسرائيل استراتيجية تقوم على تغيير الإدراك الذي يقول بهزيمتها في لبنان، أي عملية تآكلية تدريجية للنصر الإلهي، حسب تعبير الأمين العام لحزب الله. فكانت المناورات العسكرية ـ المدنية الدفاعية. كما كانت الغارة على دير الزور، ومن ثم اغتيال عماد مُغنية.

بعد حرب تموز والقرار 1701، أصبحت مسؤولية الساحة اللبنانية وما يدور، أو قد يدور فيها وفي محيطها، من مسؤولية الدولة اللبنانية. بكلام آخر، تحولت بوصلة المحاسبة إلى من يمكن محاسبته، أي الدولة الشرعية بدل لاعب من خارج إطار الدولة لا يملك عنوانا بريديا كما يُقال. بذلك، تحول موضوع حزب الله إلى صراع لبناني داخلي، ليكون حزب الله قد ربح عسكريا فقط لأنه لم يخسر ضد إسرائيل، لكن ليخسر في السياسة الداخلية فيضيع النصر. ومن الأكيد ان اللعبة قد أصبحت خطرة على اللاعبين الأساسيين والثانويين. وإذا كانت ساعات الاستحقاق لم تأتِ بعد، فمن الأكيد ان هذه المرحلة هي المرحلة التحضيرية لمواعيد الحلول. فلا يمكن لأميركا الاستمرار إلى ما لا نهاية في العراق بهذا الوضع. ولا يمكن لإيران أن تبقى مُحتواة إلى أمد غير معروف. كذلك يندرج هذا الأمر على سورية ولبنان وفلسطين.

وإذا كانت الدول الإقليمية قد جمعت الأوراق اللازمة للصرف عند أوان الحلول، فمن الأكيد ان قيادات هذه الأوراق القابلة للصرف، قد أصبحت في واقع الانتظار، لا تملك أية حرية للمبادرة. وبالتالي، تحول المستوى التكتيكي المحلي إلى واقع جامد، لتتحول الحركية إلى المستوى الأعلى، ألا وهو الإقليمي.

فما هي مؤشرات هذه الحركية؟ وما هي صعوباتها؟

في السياسة، تبنى المخططات عادة تحسبا للسيناريو الأسوأ. في الاقتصاد المقاربة تفاؤلية. بكلام آخر، لا يمكن لأميركا ان تعتمد على النيات الحسنة لإيران كي تنسحب اليوم قبل الغد من العراق. كذلك الأمر بالنسبة الى إيران تجاه اميركا. ولا يمكن لسورية ان تأمل خيرا من إسرائيل تجاه الصراع العربي ـ الاسرائيلي. في المقابل، لا يمكن لاسرائيل ان تأمن لسورية عبر الانسحاب من هضبة الجولان.

لذلك، وقبل التوصل إلى مأسسة الاتفاقات، وتوضيحها، وتأمين ضماناتها، تجرب الدول كل في ما خصها اختبار الآخر، سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.

تختبر سورية إسرائيل وأميركا اليوم في لبنان. كما تختبر ايران الولايات المتحدة وبعض العرب في الساحة العراقية.

وعند التوصل إلى مأسسة الحل، قد يعني هذا، ان الكل قد اقتنع بأن استمرار الاختبار قد أصبح مضرا بمصالحه. وهنا، تدفع الساحات الضعيفة عادة الأثمان الباهظة: العراق، لبنان والساحة الفلسطينية. فماذا عن المؤشرات؟

* الاعلان السوري عن إمكان فتح باب السلام مع إسرائيل. أكد اولمرت هذا الامر. لكن الجدير ذكره، هو إعلان موضوع التفاوض مع إسرائيل من قبل الوزير المعلم، وهو في طهران، وإلى جانب منوشهر متكي. فهل ايران تسير في الركب ولا تمانع؟ وهل هناك خطان متوازيان سلميان يسيران اليوم في المنطقة. الاول، بين اميركا وإيران في العراق. والثاني بين سورية وإسرائيل حول لبنان؟

* تندرج رسالة الظواهري حول لبنان، وحول التقارب الايراني الاميركي، والإسرائيلي السوري، كمؤشر يؤكد ان هناك شيئا ما.

* أتى تسريب الخبر الاميركي حول منشأة دير الزور ليضع المزيد من الضغوط على سورية. فهل تم تسريب الخبر من اميركا لانها غير راضية عن التقارب الاسرائيلي السوري؟ وهل يمكن لاسرائيل اليوم ان تتفرد بقرار كهذا دون موافقة اميركية مسبقة؟ ولماذا تشرح الادارة الاميركية للكونغرس غارة إسرائيلية على سورية؟ فهل هناك تحضير للكونغرس لشيء ما؟

وإذا اعتبرنا ان شيئا ما يجري في المنطقة قد يؤدي إلى تحولات جذرية، فما هو المطلوب من الافرقاء من اثمان ومن جوائز؟ لذلك تُطرح الاسئلة التالية:

1 ـ هل يمكن لأولمرت ان ينسحب من الجولان في ظل وضعه السياسي؟ وماذا يضمن امن إسرائيل؟ هذا مع العلم ان كل المفكرين الاستراتيجيين يقولون بتراجع اهمية الهضبة في ظل التقدم الكبير في التكنولوجيا. من هنا، يجب انتظار رد المعارضة في اسرائيل، وبالتحديد نتانياهو، للتأكد مما كانت اميركا موافقة على التقارب مع سورية.

2 ـ هل يمكن لسورية ان تتخلى عن ايران وحزب الله؟ هل يمكن ان تتخلى عن حماس؟ وكل ذلك مقابل ماذا؟ العودة إلى لبنان؟ بالطبع كلا، فلبنان وساحته قد تغيرا كثيرا منذ اغتيال الرئيس الحريري. هل يمكن طمأنة النظام إلى ديمومته؟ وماذا عن المحكمة الدولية؟ وهل يمكن فصل سورية عن ايران؟ ربما، لكن ما هو الثمن؟

3 ـ هل يعني تصريح الوزير المعلم في حضور متكي ان ايران سوف توافق على كل شيء؟ وإذا لم توافق، فهل سنرى رد فعل لها؟ وأين؟ هل في العراق أم في لبنان؟

4 ـ أخيرا وليس آخرا، هل يمكن للإدارة الأميركية الحالية ان تغير سياساتها تجاه ايران فجأة، وبعد ثلاثة عقود من العدائية؟ وهل يمكنها ان تفعل ذلك تجاه سورية؟ وهل لدى بوش الوقت والاندفاع اللازمان؟

في الختام، يبدو ان الكل يلعب لعبة تمرير الوقت، وذلك في ظل اقتناع الكل ان مرحلة الحلول لم تعد بعيدة. كذلك، يبدو ان الكل يزرع الكثير من الغموض لإعماء الآخرين، وتغيير وعيهم وإدراكهم حول المسائل الجوهرية. لذلك هناك الكثير من الضوضاء، والقليل القليل من الهمس. وكما علمنا الفكر الاستراتيجي، علينا في ظل هذا الوضع، التركيز على الهمس، لكن دون إهمال الضوضاء. والأكيد اليوم ان الهمس قد لا يكون حتى مسموعا. فأيهما سيسبق الآخر، الحرب ام الخرق السلمي؟

* عميد سابق في الجيش اللبناني

وباحث أكاديمي