الحوار الديني ورهانات مؤتمر مدريد

TT

أعلنت رابطة العالم الإسلامي عن مؤتمرها الثاني للحوار الديني، الذي سيكون هذه المرة منتدى عالميا بمشاركة ممثلي مختلف الديانات والثقافات، ضمن منظور حواري تواصلي بلوره بوضوح الملك عبد الله بن عبد العزيز في مبادرته المهمة التي أطلقها منذ أشهر، وفصلها في خطابه الافتتاحي لمؤتمر مكة المكرمة الإسلامي للحوار الذي كنت احد ضيوفه.

ولا شك ان مؤتمر مدريد المقرر منتصف الشهر القادم ينعقد في ظرفية خاصة، تتسم بسمات تستدعي وقفة تنبيه، لتأطير الحوار واستبيان سبله ومقاصده وغائياته.

أولى هذه المميزات تتصل بالدور السعودي المطلوب في حوار كنا من قبل قد اقترحنا ان يتم في إطار ما دعوناه بالدبلوماسية الدينية التي أصبحت اليوم من أساسيات السياسة الخارجية للدول الكبرى. ولا تعني الدبلوماسية الدينية الحوار العقدي مع الديانات المخالفة، وانما توظيف العامل الديني في التقارب والسلم بين الأمم والدول. والمملكة العربية السعودية مهيأة لأداء هذا الدور لسببين رئيسيين هما من جهة موقعها الروحي والاستراتيجي المركزي داخل الفضاء الإسلامي، ومن جهة أخرى وجودها ظلما في قلب الأزمة التي طالت علاقات الإسلام بالغرب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

لقد ظهرت بعد الأحداث المذكورة موجة عدائية للمملكة في الصحافة وفي الأدبيات الاستراتيجية الغربية أحيانا باسم «الوهابية» وأحيانا أخرى باسم «الخيار الإسلامي» إجمالا.

وإذا كانت محاولات فكرية عديدة قد بذلت في الأعوام الأخيرة لتصحيح هذه الصورة الزائفة، إلا أنها ظلت حبيسة الاهتمامات الأكاديمية والثقافية الضيقة، ولم تتم صياغتها في شكل سياسات استراتيجية منسجمة للوصول للعالم الغربي ومخاطبة مؤسسات صنع الرأي والقرار فيه. لذا فان مبادرة خادم الحرمين الشريفين الأخيرة تكتسي أهميتها من إخراج الحوار القائم إلى الأجندة الدولية الكبرى. وفي انعقاد المؤتمر الثاني الموسع في مدريد دلالة لا تخفى، بالنظر لزخم الأندلس الرمزي في الحوار الإسلامي ـ المسيحي وباعتبار مبادرة رئيس وزراء إسبانيا زباترو الداعية لائتلاف الحضارات كخطوة متقدمة في إستراتيجية الحوار والتواصل.

أما الاعتبار الثاني فيتعلق بتركيـبــة الحـقــل الإسلامي نفسه، التي أصبحت بحاجة إلى وقفة تشخيص وغربلة. فمع أن مؤتمر مكة المكرمة الذي حضره ممثلون عن مختلف المذاهب الإسلامية تبنى بوضوح لا لبس فيه مسلك الحوار مع الديانات والحضارات الأخرى، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها ان في الحقل الإسلامي أطرافا عالية الصوت رافضة لنهج الاعتدال والتسامح في الصلة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين والعقيدة.

بل يمكن القول ان ثمة ثقافة مشتركة سائدة تدعم هذا الخط، تستند لمدونة فقهية وكلامية تقتضي المراجعة، لكونها تعكس مناخ الحروب الصليبية في القرون الوسطى وتتصادم مع ثوابت الدين في الانفتاح والاعتدال.

ولا شك ان التحضير لمؤتمر مدريد تجسيدا لمقاربة الحوار الملكية يقتضي بلورة موقف فكري متكامل وجامع يؤصل نهج الحوار الديني في أسسه الشرعية والفقهية، ويقطع الطريق أمام ثقافة التطرف والإقصاء السائدة في بعض مكونات الحقل الإسلامي.

أما ثالث الاعتبارات فيتعلق بمخرجات ونتائج هذا الحوار الذي يجب ان يفضي الى ثمرتين أساسيتين هما: تطبيع وضع الإسلام في خصوصياته ومميزاته داخل المرجعية المعيارية السائدة، وإعادة الاعتبار للعامل الديني في توجيه «السياسات الحضارية» الراهنة.

أما الجانب الأول فيعني نبذ منطق الاستثناء الثقافي المفضي للإقصاء والتهميش، بإبراز الإسلام عنصرا محوريا في تشكيل الثقافة الإنسانية، ومصدرا محوريا لإغنائها. أما الجانب الثاني فيعني التحالف مع الديانات الأخرى للوصول لهدف مشترك هو إبراز الدور القيمي والإنساني للدين إجمالا من حيث هو القاعدة العميقة للثقافة البشرية في مقابل العلمانيات الإقصائية التي انحسر زخمها الأيديولوجي بعد انهيار التصورات التاريخية والوضعية التي أرادت القضاء على الدين واستبداله بالعلم أو الأمة، ولقد تبنى هذا الرأي أخيرا زعيمان غربيان هما الرئيس الفرنسي ساركوزي ورئيس الحكومة الاسبانية زباترو.

إن المطلوب باختصار هو ان نخرج من منطق التمترس الثقافي وسنستكشف عندئذ رحابة العالم، وندرك ان الآخرين مستعدون لفهمنا وقبولنا أكثر مما نتوقع.