لكن لا يستطيع أن ينسى!

TT

ولا فخر فقد ولدت وملعقة الدواء في يدي وفي فمي وفي عيني.. فإلى جوار فراش أمي وأبي زجاجات من كل لون وحجم وشكل وطعم ورائحة كريهة. لم أقدم لهما شراباً لونه أبيض.. أو كوباً من الماء وإنما ألوان وأشكال وكثافات من السوائل اللعينة. الطبيب يكتب وأنا أجري بين الصيدليات. هذا قبل الطعام وهذا بعده وهذا أثناءه.. وبين الملعقة والأخرى، وبعد الأكل حبة وحبتان.. ويجيء النوم أو لا يجيء فكل شيء كما هو بالأمس واليوم وغداً وسنوات طويلة. والآن ورائي وأمامي آهة قصيرة وطويلة تخرج من الأنف ومن الفم ومن القلب ومن المعدة.. ولقد اختصرت كل الحروف الأبجدية في كلمة من حرفين: ألف وهاء.. وأحياناً ألف وأحياناً هاء.. وأحياناً لا هي ألف ولا هي هاء..

وأسأل زملائي التلامذة إن كان آباؤهم وأمهاتهم في صحة جيدة، ويندهشون لسؤالي فيقولون مستنكرين: طبعاً زي البمب ولكن لماذا تسأل؟

وأسأل لأنني لا أتصور أباً ليس مريضاً ولا أماً.. وأسأل زملائي إن كانوا ينامون الليل. وطبعاً ينامون ولكني لا أنام ولا أعرف كيف.. وأسألهم إن كانوا ينامون ممددين أو جالسين. ويندهشون ولكن عندي أسباب وجيهة لذلك. وليست عندهم هذه الأسباب ثم إنهم لا يعرفون.. وفي امتحان مادة الرسم بالابتدائية طلبوا مني أن أرسم زجاجة كولونيا ففوجئ المدرس والتلاميذ بأنني أبكي. وتهامسوا يقولون للمدرسين إنه أحسن تلميذ في المدرسة في كل العلوم إنه الأول. أما الذي يبكيه فهو أنه لم ير زجاجة كولونيا في حياته فكل الزجاجات عقاقير فاندهش المدرس وقال لي: ارسم أية زجاجة يا ابني وأكتب عليها: كولونيا. وبس!

ومن المناظر المألوفة أن تجد ورائي وحولي في مكتبي عشرات من زجاجات الكولونيا. وأنا أعرف السبب وأضحك.. ولكن الطفل في داخلي يريد أن ينسى ولكنه لا يستطيع!