«الكشكلة» مرّة أخرى

TT

ليسمح لي الأستاذ علي سعد الموسى الكاتب في صحيفة الوطن أن أقتطع أجزاء من مقالة له، وأجعلها الموضوع الذي أملأ فيه عمودي اليوم ـ وبالتالي سوف احصل على المكافأة المقررة «باردة ومبرّدة» دون أي جهد يذكر ـ وإنني أشكر الأستاذ وأعده بأنني سوف أدعو له في القريب العاجل إذا سمحت الظروف.

وهو باختصار يناقش فكرة القفز من «ما يعرف إلى ما لا يعرف». واتخذ من الفنان محمد عبده نموذجاً بذلك عندما ظهر في مقابلتين تلفزيونيتين وتورط فيهما بالفتوى والحلال والحرام.

ويقول الأستاذ علي: «هذا هو ديدننا في «كشكلة» الفرد بإحالته إلى كشكول موسوعي، وقبله انبهرنا بحنجرة سعد الفقيه المدّوية، فسحبنا أنامله من مبضع الجراح فوق جلد المريض، وقبله أطربتنا خطب محسن العواجي فوظفناه خطيبا في مسجد الجامعة وهو القادم من معمل المبيدات والمخصبات من كلية الزراعة بذات الجامعة، ومثله كان محمد المسعري الذي تحول لتوقيع هائل ـ على منظمة اسمها لجنة الحقوق الشرعية ـ وهو الأستاذ والبروفيسور المثير في حقل الفيزياء بالجامعة».

«وبدون أسماء» أقول إن الأستاذ علي نسي فلان (المحاسب)، وفلان (الجيولوجي)، وفلان (المهندس)، وفلان (الصيدلي)، كلهم ما شاء الله تركوا اختصاصاتهم وأصبحوا دعاة يملأون وسائل الإعلام صراخاً. ويمضي الأستاذ علي قائلاً: لسبب ما تحول هؤلاء إلى كشكول، ومع «الكشكلة» وموجتها الجارفة الصاخبة أخذنا هؤلاء من معامل الطب والفيزياء والزراعة، حتى ما كان يدعو للضحك: لم يعد هؤلاء ذوو التاريخ القريب يدخلون قاعات الطب والعلوم، بل يدرسون مواد الثقافة الإسلامية في ذات الفترة الواحدة كمتطلب أساسي لطلبة ذات الجامعة».

«يحدث هذا لأننا مجتمعات لا تؤمن بالاختصاص، بل لا تنظر للاختصاص كقيمة رمزية دلالية، ويحدث هذا لأن المجتمع تربى على رغبة جامحة تأخذ الأفراد نحو طريق الشهرة الاجتماعية، فمن هو الذي كان سيستمع إلى عالم في معمل أو مهندس في مشروع أو طبيب في غرفة عمليات لولا أنهم لم يكسروا حاجز المألوف الذي يتقنونه إلى عالم اللامألوف الذي لم يستمروا فيه».

«أخذنا العلماء الجهابذة من كراسي البحث العلمي بالجامعة من تخصصات كانوا بها رموزاً، إلى شهوة المنابر وشهرتها، فتكلموا قليلاً فيما تدربوا عليه وحين انتهى ما لديهم من كلام بقوا في الفراغ، فملأوا الفراغ بالفراغ، وانتهوا بما انتهوا إليه».

انتهى كلام الأستاذ علي، ولكنه نسي (غفر الله له) ـ على طريقة الأستاذ تركي الدخيل ـ، أقول انه نسي أن هؤلاء الجهابذة الذين تحدث عنهم إنما هم يتأسون (بابن سينا، والرازي، وابن الهيثم، والفارابي، والكندي وغيرهم)، على أساس أن هؤلاء قد برعوا في علوم الدنيا ولم ينسوا نصيبهم من علوم الآخرة، فكانوا هم أيضاً الفقهاء والمحدثين.

وهكذا سارت الأمة الإسلامية في تاريخها إلى ما قبل قرنين، ثم بدأ الانفجار الكبير عندما أطل القرن العشرون بوجهه الصارم على الكرة الأرضية قائلاً ومحذراً: لا مكان بعد اليوم لمن (لا يتخصص)، وانصاعت أمم كثيرة لذلك الشرط القاسي، وأصبحت تعمل بمنطق (المصنع)، فكل جزء يكمل الآخر وله أهميته حتى لو كان ذلك الآخر مجرد (برغي أو صامولة).

وهؤلاء الأفذاذ الذين تحدثت عنهم أخي علي يريدون أن يلووا عنق المنطق للخلف، وهذا مستحيل، لأن نهر الزمان لا بد له وان يتقدم دائماً للأمام سواء شئنا أم أبينا وصرخنا ولطمنا.

والمضحك أنني متأكد من أن الجميع يذكرون ويحفظون عن ظهر قلب مثل (الغراب الذي أراد أن يقلد مشية الحمامة)، فتحول بعد ذلك إلى (ببغاء).

[email protected]