سحابة دخان بلا سيجار

TT

قصة تحقيق قلم الجنايات في بوليس العاصمة لندن مع عمدتها بوريس جونسون، بتهمة حيازته على حافظة سيجار قديمة، من مقتنيات وزير الخارجية العراقي الأسبق طارق عزيز، تحتوي طرائف ذات دلالة.

ندعم طبعا سيادة القانون على الجميع من عمدة لندن حتى ساعي مكتبه، ولو كان جوهر «الجريمة» المزعومة لا يزيد قيمته على حفنة دولارات، فالبوليس لا يملك الا التحقيق في اشتباه وقوع اي مخالفة جنائية فور تقيه بلاغا بها.

طرائف الحكاية تشمل تقاليد مارسها الصحفيون لاجيال، وبعدا سياسيا ظهر في استغلال رجال السياسة القانون لمجرد الاضرار بسمعة الخصوم في حملة انتخابية غير عابئين بإهدار وقت وجهد البوليس ـ الذي يشكو من قلة الميزانية ونقص الرجال.

بدأت الحكاية عام 2003، بعد سقوط ديكتاتورية البعث وذهاب صحفيين، كان نظام صدام حسين يرفض منحهم تأشيرات دخول، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، الى بغداد.

كان معظمنا ممنوعا من دخول العراق ـ سبب رفض تأشيرات الدخول لكاتبكم، كان كشفي لبرنامج الصواريخ السري، الذي يعده صدام عندما انفجر مصنع وقود الصواريخ الجاف في الحلة في اغسطس عام 1989 وراح ضحيته اكثر من 800 شخص.

حرصنا جميعا على زيارة مواقع شيدت أو تغيرت ملامحها في فترة منعنا من دخول العراق، ومنها القصور الباذخة التي شيدها صدام لنفسه واسرته وكبار رؤوس النظام، اثناء فترة فرض العقوبات الاقتصادية من جانب مجلس الامن.

جزء من ثقافتنا الصحفية كمراسلين خارجيين جمع غنائم Trophies رمزية من مناطق الحروب التي نغطيها، كنا نتفنن في اخفائها عن اعين المرافقين من وزارات الحربية والاعلام في هذه المناطق. وقد حملت شخصيا عبوات رصاص وقذائف نحاسية فارغة من حرب العراق وايران، وحرب ليبيا وتشاد، والحرب الأهلية اللبنانية، حولت زوجتي بعضها الى «فازات» صغيرة للزهور. كما حملنا احجار من جدار برلين بعد سقوطه، او بعض شظايا تساقطت على كرواتيا، ورؤوس اسهم ورماح مكسورة من حروب اهلية غطيناها في افريقيا.

زملاء في «فليت ستريت» تضمنت كتبهم صور قصاصات من رسائل كانت في جيوب سترات ملقاة في ميادين قتال، بعد اخلاء جثث مرتديها من جنود خانهم الحظ.

هذه الغنائم رمزية؛ لا قيمة مادية لها، كانت ستندثر في الرمال او تضيع في حفر ردم المخلفات، وانما لها قيمة الطرافة المعنوية عند الصحفي، مثل جمع طفل صغير لأصداف البحر عند زيارته الشاطئ اول مرة.

طبعا انا لن ابوح بتفاصيل عن زياراتي او ما صادفت في بغداد والبصرة في الايام الاولى، التي اعقبت سقوط صدام ونظامه، خشية ان يزورني البوليس ويفتح تحقيقا، وانما سأذكر تفاصيل عثور المستر جونسون على حافظة السيجار التي يحقق بوليس العاصمة فيها.

زار جونسون بغداد في الفترة نفسها، كبرلماني عندما كان عضوا عن دائرة هانلي في مجلس العموم، وكصحفي يترأس تحرير مجلة «الاسبكتاتور» العريقة ويكتب مقالا اسبوعيا في «الديلي تلغراف».

ولأن طارق عزيز كان الوجه الديبلوماسي الاول للنظام الصدامي، كان يلتقي بنا باستمرار، كصحفيين بالصحف العالمية، فكان من الطبيعي انا يدفعنا فضولنا الصحفي لزيارة منزله الفخم، بعد ان اقتحمته الجماهير ونهبت محتوياته.

عندما تفقد جونسون، مع مرافقين عينهم مجلس الحكم الجديد منزل عزيز، تعثرت قدمه بين ركام حطام غرفة الجلوس، بحافظة تخزين سيجار ملقاة بين المهملات، فالتقطها وكانت موضع حديث بينه وبين مرافقيه عن ثراء وفخامة ذوق زعماء البعث في السيجار الكوبي الضخم ومشروب «الجوني» ووكر «البلاك لايبل». ولما فهم جونسون من مرافقيه ان الركام والمهملات سيتم التخلص منها لتنظيف المنزل ليستفيد الشعب منه استأذنهم في حمل الـtrophy معه لعرضها على الاصدقاء في لندن، فلم يمانعوا في فقدان قطعة كانت ستنتهي في سلة المهملات.

نشر جونسون تفاصيل الحكاية عن تدخين زعماء البعث للسيجار الذي يفوق ثمنه ما يساوي وجبة كاملة لاسرة عراقية، اثناء فترة العقوبات الاقتصادية.

الطريف انه بعد بضعة اشهر تلقى جونسون من طارق عزيز، عبر محاميه، رسالة خفيفة الظل، «يهديه» فيها حافظة السيجار، ولا ينتظر هدية مقابلة في حالة الافراج عنه وحضوره الى لندن.

رشح حزب المحافظين جونسون لمنصب عمدة لندن في مطلع العام الحالي ضد العمدة السابق اليساري كين ليفنغستون، الذي اغضب اغالب اللندنيين، بسبب ما رأوه من حكم ديكتاتوري، وغروره ومعاملته الصحافة بغطرسة وتعجرف، وبينت استطلاعات الرأي تفوق جونسون على ليفنغستون من البداية.

لم يترك مؤيدو حملة ليفنغستون، وأغلبهم من الجماعات اليسارية والاسلاموجيين المتطرفين حجرا مر فوقه جونسون منذ نعومة أظفاره الا وقلبوه بحثا عن اي اثر يشوه سمعته، وينال من كرامته بغرض واحد هو خفض شعبيته التي استمرت في الزيادة. ليفنغنستون واصحابه ينتمون لنوع من الرجال، اذا ما رأي حزاما لا يستطع مقاومة اغراء توجيه الضربات تحته.

استقطع مديرو حملة ليفنغنستون الانتخابية من مقالات جونسون السابقة اي عبارة واخذوها خارج السياق، اذا ما دعمت اتهامهم له بالعنصرية وكراهية الاقليات. ثم وجد باحثو حملة ليفنغستون مقالة جونسون ـ الطريفة ـ عن حافظة سيجار طارق عزيز. وتلقى بوليس لندن بلاغا عن «نهب» جونسون لقطع مهمة وقيمة من «التراث القومي العراقي»؛ خاصة أن حكومة العراق تقدمت ببلاغ رسمي للانتربول وطلبت مساعدة اليونسكو لاقتفاء اثر محتويات المتاحف، التي نهبت عندما اخنفت الشرطة العراقية عقب سقوط بغداد في 9 ابريل 2003.

حكمدار بوليس لندن، السير ايان بلير، كان هدفا للانتقادات والمطالبة بالاستقالة من الصحافة ومن المواطنين اللندنيين لأوجه قصور كثيرة في شرطته وسوء ترتيبها للاولويات ذروتها في يوليو 2005، عندما قتل ضباط من قواته كهربائيا برازيليا برئا في قطار الانفاق، ظن مراقبوه انه احد الهاربين من محاولات التفجير الفاشلة.

كذب البوليس في البداية على الصحافة في وصف الشاب وملابسه وتصرفاته، وزاد الحكمدار من بلة وحل التضليل، بتأكيداته، لمدة 24 ساعة، ان ضحية خطأ قواته كان من المطلوبين. وسواء علم الحكمدار بلير ام انه كالزوج المخدوع كان آخر من يعلم، فإنه اهمل في واجبه وطالبت المعارضة والصحافة برأسه السياسي على طبق الاستقالة.

لكن العمدة اليساري السابق ليفنغستون، دعم حكمدار البوليس ومنحه ثقته الكاملة.

وقد يكون الأمر مصادفة ان الشرطة خصصت الوقت والمال والجهد للتحقيق مع خصم ليفنغستون السياسي، في الوقت التي يتحججون فيه بتقاعسهم عن مكافحة جرائم العنف والتحقيق في سرقات المنازل الاعتداء على كبار السن والنساء، بقلة الرجال والامكانيات.

وتعديلا للقول الشهير «لا يوجد دخان بلا نار» نقول سحابة دخان عمدة لندن وبوليسها كانت بلا سيجار.