العراق.. معضلة بوش

TT

دعونا نعود بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء لنرى كيف بدأ العالم عام 2006/2007. آنذاك، كان العراق متجهاً نحو الهاوية وشهد العديد من المذابح وعمليات التطهير العرقي المفزعة التي شكلت مصدراً دائماً للأنباء السيئة في وسائل الإعلام العالمية. وأصدر الرأي العام الأميركي رأياً قاطعاً ضد حرب العراق والحزب الجمهوري والرئيس الأميركي جورج بوش.

في تلك الأثناء، مالت آراء الخبراء والنخبة الأميركية لصالح التوصيات التي تمخض عنها تقرير «بيكر ـ هاميلتون» الذي دعا إلى تسليم مهمة التعامل مع قدر أكبر من المشكلات إلى المؤسسة العسكرية العراقية، والعمل في الوقت ذاته على اجتذاب كل من إيران وسورية. وداخل أروقة الكونغرس، كان الجمهوريون يشعرون بالازدراء تجاه بوش من دون أن يعلنوا ذلك، بينما حرص الديمقراطيون على الإعلان عن هذا الاحتقار. وأعربت قيادات داخل الحزب الديمقراطي، مثل السيناتور هاري ريد، عن اعتقادها بأن الولايات المتحدة خسرت الحرب بالفعل. ودعا باراك أوباما إلى سحب القوات الأميركية من العراق بداية من ربيع 2007، في الوقت الذي تقدم فيه ريد بمشروع قانون داخل الكونغرس ينص على تنفيذ انسحاب أميركي كامل بحلول مارس (آذار) 2008.

وأبدت معظم الآراء المطروحة على صفحات الجرائد وداخل الندوات معارضتها لفكرة زيادة عدد القوات الأميركية في العراق بحجة أن إضافة 20 ألف جندي فقط لتلك القوات لن يخلق اختلافاً حقيقياً على أرض الواقع، وأن الوجود الأميركي يثير أعمال العنف، بدلاً من إخمادها، وأنه كلما زادت الجهود الأميركية هناك لحل المشكلات القائمة، تضاءلت الجهود العراقية على الصعيد ذاته، علاوة على قول البعض أن العراق يشهد حرباً أهلية ومن الجنون وضع الجنود الأميركيين في خضم هذه الحرب. وعندما تشاور الرئيس بوش مع قادته العسكريين، جاءت الآراء متشابهة بدرجة كبيرة مع وجهات النظر السالفة الذكر، حيث أبدى جميع كبار القادة تقريباً، بما في ذلك أبي زيد وسكوميكر وكاسي، معارضتهم لإرسال قوات إضافية إلى العراق. وأشارت تقارير صدرت أخيراً إلى أن كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية، كانت من بين المعارضين أيضاً. على الجانب الآخر، دعا نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، إلى إقرار وجود أميركي أقل، وليس أكبر، بالبلاد. في ظل هذه الظروف، من المثير للدهشة أن نجد أن جورج بوش قرر إرسال المزيد من الجنود إلى بغداد. وعند استرجاع هذه الفترة الآن، تتجلى حقيقة واحدة، ألا وهي أن جميع الخصال الشخصية التي أسفرت عن تخبط بوش خلال السنوات الأولى من الحرب هي التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار الناجح خلال تلك الفترة الحساسة. يواجه بوش انتقادات لكونه عنيدا، لكن بدون هذا العناد وهذا الرفض لتقبل الهزيمة، لم يكن ليتخذ قط هذا القرار بزيادة عدد القوات الأميركية في العراق رغم ما لاقاه من معارضة داخلية. ويتهم الكثيرون بوش بالثقة المفرطة، لكن بدون هذه الثقة المفرطة لم يكن ليتجاهل آراء كبار قادته العسكريين باتخاذه هذا القرار.

ويتسم بوش بقدر بالغ من التكتم، وكثيراً ما ينصت إلى نائبه ديك تشيني الذي اضطلع بدور جوهري في تعزيز الرأي المساند بإرسال قوات إضافية إلى العراق. وفي الواقع، فإن الكثير من المحيطين ببوش ممن يواجهون اتهامات بسوء التصرف اتخذوا الموقف الصحيح تماماً حيال تلك المسألة تحديداً. وتتمثل حقيقة أخرى في أن بوش، الذي سبق أن اتخذ قرارات بالغة السوء خلال الفترة الأولى من الحرب، اتخذ مثل هذا القرار الشجاع والصائب عام 2006. وبعد مرور أكثر من عام، أثمرت هذه الزيادة في أعداد الجنود مكاسب كبرى، حيث انحسرت أعمال العنف بدرجة بالغة وتحسنت الحياة اليومية بالعراق. وسمح وجود هذه القوات بمنح قوات الأمن العراقية المزيد من الوقت للتحول إلى قوة مقاتلة أكثر فعالية. وفي الوقت ذاته، تبدي الحكومة العراقية قوة متنامية، بل وبعض المؤشرات على الحيادية والنزاهة. وانتقل العراق من دولة فاشلة إلى دولة هشة فحسب.

وتذكرنا هذه الفترة برمتها بأن التاريخ دوماً ما يتسم بالتعقيد، ذلك أن الخصال التي تسفر عن كوارث في ظل ظروف معينة هي ذاتها التي تثمر النجاح في ظروف أخرى، وأن الأشخاص الذين يبدون أذكياء في بعض اللحظات يتسمون بقدر هائل من الحمق في لحظات أخرى.

لقد أدرك معسكر أنصار الحرب هذا الدرس المتواضع خلال الأيام الحالكة التي شهدها عام 2006. والآن، جاء دور معسكر معارضي زيادة أعداد القوات الأميركية في العراق ليتلقوا نصيبهم من المذلة والفشل. وقد مر أعضاء هذا المعسكر بالفعل بمراحل عدة من الإنكار الفكري، كان أولها الإصرار ببساطة على نفي أن إرسال جنود إضافيين للعراق والاستراتيجية التي ينتهجها «بيتريوس» يحققان أدنى نجاح، ثم اتهموا من أشاروا إلى حدوث تقدم على صعيد الأوضاع العراقية الداخلية بالنفاق والخبل. بعد ذلك، اعترفوا بحدوث تقدم عسكري، وليس سياسي، في العراق. وأخيراً سارعوا بالانتقال إلى حجة أن الوضع في العراق يشهد تحسناً كبيراً، ما يمنح القوات الأميركية القدرة على العودة إلى الوطن في وقت قريب.

بيد أنه لم يمر وقت طويل قبل أن تعترف العناصر الأكثر أمانة داخل هذا المعسكر بأن بوش، الذي يفترضون فيه البلاهة، اتخذ بالفعل القرار الصائب. وربما يعلن بعض الشجعان منهم أنه في حال انسحاب واشنطن من العراق في خضم حالة الفوضى التي كان يعاني منها، فربما كان العالم سيصبح أسوأ بكثير في الوقت الحاضر.

* خدمة «نيويورك تايمز»