العرب والعراق: أوان حضور فاعل

TT

في الأسبوع الماضي وفي مناسبتين التقيت بدبلوماسيين يعملان في العراق وهما ينهيان مدة عملهما، فسمعت نفس التوصيف من الدبلوماسي الغربي ومن السفير الياباني، حيث يعودان بذاكرتهما الى بدايات العام الماضي وكيف كانا يتوقعان ويظنان ان العراق منزلق الى حرب أهلية او الى تفكك، وكيف يشهدان عراقا آخر الآن وان هو لم يتجاوز هشاشته الامنية بعد، الا ان تلك السيناريوهات الكارثية باتت ليست في وارد تفكير احد، وهذا ما يفسر جزءا من الالحاح العراقي على ضرورة الوجود الدبلوماسي العربي في العراق، إذ انه يعطي لدولهم صورة حقيقية عما يجري، ربما يرد على ذلك بأن العراق هو الساحة الاعلامية الاولى وكل حدث فيه لا يحتاج الا لدقائق لكي ينقل، ولكن صدقوا ومن تجربة شخصية فاني أجد نفسي وانا الدارس والمدرس للسياسة والمشتغل والكاتب فيها وما يستلزمه ذلك من ملاحقة ومعرفة وقدرة على التفسير والتنبؤ بالاحداث، أشعر بأني أفقد اللمسة وأتيه في استشعار نبض الحياة وميول الناس بمجرد ما ابتعد عن العراق في سفر لبضعة أيام فكيف لدول تريد ان تبني سياستها تجاهه وهي غائبة وعن بعد.

وهذا جزء من أهمية الوجود الدبلوماسي العربي، فضلا عما يمكن ان يلعبه مبعوثوه من دور تقريبي وتوفيقي بين الفرقاء العراقيين، او بإدخال دولهم كعامل إيجابي في المفاصل التي يحتاجها العراق، فلم يعد من المنطقي ان يكون هناك تمثيل لخمس وخمسين دولة اوربية واجنبية في حين ان التمثيل العربي لا يتعدى خمس بعثات وكلها على مستوى قائم بالاعمال ويقيمون في عمان، الوجود الدبلوماسي العربي لا يراد منه ان يعطي شرعية للنظام السياسي كونه يستمدها أصلا من شعبه، ولا العراق دولة جديدة استحدثت امس والتمثيل الدبلوماسي يعطيها اعترافا، ناهيك من ان الاعتراف يتفق دارسو القانون الدولي هو ليس من عناصر الدولة بل هو كاشف وليس موجدا.

فاجتماع التمثيل الدبلوماسي المتدني والاستمرار بعزل الحكومة العراقية وعدم الغاء الديون والتعويضات والرخاوة في مساءلة وملاحقة الارهاب المصدر للعراق، أقل ما توصف به بأنها ليست مؤشرات على رغبة للعب دور فاعل في العراق بغية كسب بلد مهم.

اما لجهة موقف العزل، فتعرف الطبقة السياسية هنا في العراق بأن أكثر القوى والشخصيات مناوأة وعداء لإيران لو طلبت، بل غالباً ما يتم التمني عليها، زيارة ايران فان رغبتها تلبى في اليوم الثاني مع جدول لقاءات مع أهم المسؤولين، في حين ان رئيس الوزراء العراقي لم تزل تلقى رغباته بالتواصل مع العرب التجاهل والصدود، واللافت انه في أشد ظروف التأزم مع الاسرائيليين لم ينقطع مسلسل تبادل زيارات المسؤولين العرب معها، في حين لم يقابلها عشر معشارها زيارات او اتصالات مع العراق.

اما مشكلة الديون والتعويضات، فانه في الوقت الذي اسقطت دول نادي باريس اغلب ديونها عن العراق، قابله تمنع ووعود عربية بالدرس، ودليل عدم الاكتراث تدني المشاركة العربية في مؤتمر العهد الدولي بدعم العراق الذي عقد مؤخراً في ستوكهولم، فكيف إذاً نقنع العراقي عندما يرى ان الدول البوذية والهندوسية والمسيحية وحتى اللادينية تسقط ديونها تخفيفاً عنه وأخاه العربي والمسلم يمتنع أو يتردد عن إسقاط ديون «بغيضة» كان الشعب العراقي أول ضحاياها. اما التعويضات فانها قصة حزن اخرى؛ فالكويت التي مع تثمين دورها كونها من جوار العراق الايجابي إلا ان مسألة الديون والتعويضات تخل بصورتها، فقد سدد العراق لها للآن 32 مليار دولار تعويضات ويبقى عليه ان يدفع اكثر من 27 مليار دولار بواقع 5% من موارده تقتطع من قوته ودوائه وحاجات أيتامه وأرامله ومعاقيه لزيادة رفاه الكويت، فهي ترفض حتى مناقشتها وتعتبرها من قرارات مجلس الامن رغم انها ضمن شروط الإذعان التي اتخذت على العراق وكان غائباً عن اقرار المطالبات المبالغة، بجانب ذلك هناك دعاوى اخرى متفرقة منها للخطوط الجوية الكويتية التي كسبتها ضد الخطوط العراقية وبمليار ومائتي مليون دولار رغم انها سبق وحصلت من التأمين على 450 مليون دولار، وعندما سمعت الكويت بأن العراق تعاقد مؤخراً على شراء طائرات حيث انه البلد الوحيد ربما في الارض الذي لا يملك طائرات ومرضاه والحجيج في موسمهم ينامون لأيام على ارضيات المطارات بانتظار طائرات مستأجرة فاقدة لشروط السلامة لا يسمح لها بالهبوط إلا في مطارات بعض الدول المجاورة، فان محامي الخطوط الكويتية هدد بأنه سيحجز على الطائرات العراقية المشتراة بعد تسلمها إذا ما هبطت في أي مطار، بجانب استيلاء الكويت وبيعها كخردة لناقلات نفط عراقية عملاقة.

هذا حال الكويت التي يفترض انها من اكثر الدول استفادة من سقوط نظام كان لا يمكن لها ان تأمن يوماً وهي بجواره، وهذا واقع دعمها لنظام ديمقراطي يفترض ان جواره هو الضمانة لها، بعد حقبات من مطالبات ابتدأت بالملك غازي المطالب بضمها عبر اذاعته بقصر الزهور ومحاولات عبد الكريم قاسم بإلحاقها وغزو صدام لها، فبدل من ذلك هي تعتم على موضوعة التعويضات وتشتري سكوت السياسيين العراقيين بدعمهم ودعم أحزابهم متجاهلة ان الأبقى والأدوم هو الاستثمار عند الشعب العراقي عبر إزالة مرارة الماضي ونبذ عقلية الانتقام.

وأخيراً فإذا كان للعرب عذرهم حين ترددوا بسبب اللايقينية من مستقبل النظام السياسي الحالي ومن خوفهم من ابتلائه من قبل النفوذ الايراني، وأحجموا لكي لا يظهروا أنهم يساعدون الامريكان للتخلص من مأزقهم، فان المتغيرات الحالية أثبتت أن النظام العراقي تجاوز المخاوف الكبرى ونال حدا من الرضا والتشارك ما بين المكونات، كما ان مجابهة النفوذ الايراني لا تتم بترك الساحة له، اما مخاطر الوجود الامريكي المهدد للانظمة فقد انكفأت وبات الاستقرار مرجحاً في المنطقة على الدمقرطة، اما الذي لا تعجبه التشكيلة السياسية الحاكمة في العراق فعليه ألا ينتظر بل ان يستثمر بالاستقرار، إذ انه وحده الذي يجعل العراقي يصوت لمصالحه بدلا من مخاوفه.