بعضهم لم يسمع الاعتذار!

TT

بعد قرنين من إبادة السكّان الأصليّين، وقتل لغاتهم وثقافتهم، وتعريض الملايين منهم لكلّ صنوف العذاب النفسيّ والجسديّ، وبعد أن تقدّم رئيس وزراء استراليا ستيف كود باعتذار من سكّان أستراليا الأصليّين «الأبورجينز»، يطلّ علينا رئيس وزراء كندا ستيفن هاربر ليعتذر من بقيّة صغيرة متبقّية من سكّان كندا الأصليّين ممن ما زالوا على قيد الحياة. قال هاربر في كلمته أمام البرلمان الكندي الذي، مثّل البرلمان الأسترالي، يمثّل السكان الحاليين المتحدرين من المستوطنين البيض: «إنّ السكّان الأصليّين انتظروا طويلاً لسماع هذا الاعتذار». ولكنّ ما لم يقله هاربر هو أنّ مئات الألوف من السكّان الأصليّين الذين تمّت إبادتهم لن يسمعوا هذا الاعتذار وإنّ مئات اللغات وحضارة عريقة وثقافة كاملة قد أُبيدت ولن تعود أبداً. وتمّ تقديم هذا الاعتذار للبقيّة المتبقّية من التلاميذ السابقين لـ«دور الرعاية الخاصّة بالسكّان الأصليّين» والتي لم تكن كما يوحي اسمها دور رعاية على الإطلاق بل كانت تعمل لمدة قرن ونيّف على ضمان انقطاع هؤلاء الأطفال عن ثقافتهم ولغتهم الأم واستبدالها بلغة وثقافة المستوطنين البيض. فقد قال الزعيم الوطنيّ فيل فونتين والذي هو أحد هؤلاء التلامذة: «إنّه أسوأ صفحة في تاريخنا. فبسبب الفشل في قتل كلّ الهنود قرّروا قتل الهندي خلال طفولته والقضاء على كلّ شعور بانتمائه إلى الهنود» ويؤكّد أنّ عدداً منهم تعرّضوا للاعتداء الجسدي والجنسي وأنهم جميعاً كانوا يُمنعون من التحدّث بلغتهم الأم. وأكّد فونتين: «كانوا يدعوننا متوحشين على الأقلّ مرة في اليوم. كانت ثقافة طاغية تفرض إرادتها على ثقافة أخرى. لقد أضرّ ذلك بقدرتي على إقامة علاقات وأضرّ باحترامي لنفسي. كنتُ أشعر بالخجل لأنني ولِدتُ من السكّان الأصليّين». والمخجل أكثر هو أن الحكومة الكنديّة قد قررت أن تدفع عشرة آلاف دولار لكلّ من النزلاء السابقين لهذه الدور إلى جانب ثلاثة آلاف دولار عن كلّ سنة أمضاها في المركز!! تُقدّم هذه الدولارات الرخيصة لمن عوقب طوال سنين لأنّه أراد أن يحتفظ بلغته وثقافته وحياته وأسلوب عيشه ومعتقداته حيثُ تعرّض السكّان الأصليّون لعمليّة إبادة ثقافيّة كما وصفها تيد كويويزانس الذي يترأّس واحدة من جمعيّات الدفاع عن الناجين من «دور الرعاية». تأمّلوا الاسم أيضاً «دور الرعاية الخاصّة بالسكّان الأصليّين» والتي عمليّاً تُمارس تعذيبهم وإبادتهم. ومع أنّ عمليّات التعذيب والإبادة هذه بدأت منذُ القرن التاسع عشر واستمرّت طوال القرن العشرين فلم تعترف الحكومة الكنديّة، ولا الدول الديمقراطيّة المتحضّرة الأخرى، ولا منظمات حقوق الإنسان، بممارسات هذه الدور من ضرب وتعذيب وجلد وانتهاك جنسيّ وحرمان الأطفال من زيارة والديهم أو التحدّث بلغتهم الأم إلا قبل عشر سنوات فقط حين اعترفت الحكومة الكنديّة أنّ تلك «الممارسات الإجراميّة كانت مستفحلة ومستشرية بشكل كبير». إنّ متوسط عمر السكّان الأصليّين اليوم في كندا واستراليا لا يتجاوز نصف متوسط عمر السكّان الآخرين وإنهم لا يشكّلون سوى 2% من السكّان يذوبون تدريجيّاً بعد أن أنهكهم التعذيب على مدى قرنين من الزمن ودفعتهم معاناتهم على يد أسيادهم من الغربيين المتحضّرين إلى الكحول والمخدّرات. يقدّر الباحثون أنّه كانت هناك مئات اللغات التي يتحدثها السكّان الأصليّون في كندا واستراليا كما كان يقدّر عددهم في استراليا بـ 750 ألف نسمة قبل مئتي عام ويمكن لنا أن نتخيّل كم سيكون عددهم وأين ستكون لغاتهم وثقافتهم لو تمّ التعامل معهم باحترام وإنسانيّة ومساواة.

ومهما كان بريق العناوين اليوم لمثل هذه الاعتذارات المتأخّرة جداّ فإنّ حقيقة الأمر هي أنّ البلدان الجديدة، الولايات المتحدة، استراليا وكندا، قد أبادت السكّان الأصليّين وبنت مستوطنات للبيض المهاجرين من أوروبا على أنقاض ثقافة وفنون وحضارة أمم وشعوب عاشوا في هذه الأرض لآلاف السنين. ولهذا السبب ترى الغرب الديمقراطي يتعاطف مع إسرائيل، ولا تهزّه جرائم حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل يوميّا، ومنذ ستين عاما، ضدّ السكّان الأصليّين في فلسطين حيثُ يستولي المستوطنون على أراضيهم، ويقتلعون أشجارهم، ويطردونهم منها أو يقتلونهم ويستولون على بيوتهم ومقدّساتهم. ويشير حكّام إسرائيل إلى سكّان فلسطين بأنّهم «سرطان يجب اجتثاثه» أو «حشرات يجب سحقها» ويركّزون على قتل أطفالهم، ويحرمونهم بالحصار وإغلاق المعابر والاغتيالات والاختطاف من فرص الحياة، والتعليم والعمل، والعيش في حرية وسلام. ويزجّون المقاومين والمقاومات منهم للاحتلال في السجون الإسرائيليّة ويمارسون عليهم صنوف التعذيب الجسديّ والجنسيّ التي مورست على السكّان الأصليّين في مدارس «الرعاية» في البلدان التي جاء منها المستوطنون إلى فلسطين. ولا يجد الكونغرس الأمريكي، وغيره من برلمانات أوروبا، ضيراً من تخصيص مليارات الدولارات، آخرها 162 مليار دولار، لتدمير العراق وأفغانستان، ولا يثير تخصيص مثل هذه الأموال الطائلة لقتل الشعوب وأبادتها، وتدمير حريتها واستقلالها وثقافتها، أي مشاعر احتجاج لدى الغربيين خاصة في دول الاستيطان الأوروبي والتي قامت على إبادة الشعوب.

ولعلّ أفضل اعتذار يمكن أن تقدّمه كندا واستراليا والولايات المتحدة إلى السكّان الأصليّين الذين تسبّبوا بإبادتهم هو أن يتخذوا موقفاً منطقيّاً وعادلاً من تجربة أخرى شبيهة ما زالت عمليّة الإبادة فيها مستمّرة في فلسطين وأن يمارسوا ضغوطاً حقيقيّة على الأقل لمنع توسع المستوطنين الإسرائيليين وإدارتهم في حرب الإبادة ومصادرة الأرض، والتي تعيد تاريخ العنصريّة البيضاء، والإبادة الجماعيّة والثقافيّة التي مورست ضدّ السكّان الأصليّين في كندا واستراليا والولايات المتحدة، لا أن يتجاهلوا الإبادة التي تحدُث اليوم قتلاً، أو مصادرة للأرض، أو بناء مستوطنات جديدة أو قلع الأشجار وجرف الأراضي الزراعية، أو بالحرمان من الحقوق الوطنيّة بما فيها حقّ الفلسطينيين بالحريّة والاستقلال، وتدمير حياة المدنيين العرب بالحواجز والمعابر وجدار الفصل العنصريّ التي لا يمكن أن تطبّق على بشر تؤخذ إنسانيتهم على أنّها مكافئة لإنسانيّة الإنسان في أوروبا وكندا واستراليا والولايات المتحدة. لقد رأيتُ وجوه نساء الأبورجينز في استراليا حين قدّم ستيفن رود اعتذاره لهم وكم كانت تشبه وجوه النساء الفلسطينيات التي تنضح ألماً وهنّ مذهولات من مقتل أطفالهنّ في المدارس والشوارع والملاعب والعالم المتحضر صامت صمت الأموات، لا لسبب ارتكبوه سوى أنهم ولدوا فلسطينيين، تماماً كما تمّت إبادة الهنود الحمر والأبورجينز لا لسبب ارتكبوه سوى لأنّهم سكّان أصليون في أرض طمع بها المستوطنون الوافدون من مناطق أخرى في العالم فأبادوهم على مدى قرنين وبنوا حضارتهم على أنقاض حضارات لن تكون لدى العالم فرصة أن يطّلع على عظمتها وروحانيتها وثقافتها ولغاتها. أولا تكفي ستون عاماً من الاستيطان الغربيّ في فلسطين وسرقة الأرض، والمياه، وقتل الأطفال كي يدرك الغرب أنّ ما يحدث في فلسطين هو ذاته الذي حصل للهنود والأبورجينز في «دور الرعاية»؟! هناك اليوم أحد عشر ألف سجين وسجينة اختطفتهم قوات الاحتلال ومخابراتهم من بيوتهم في فلسطين من النساء والأطفال والشباب وقد أودِعوا سجون الاحتلال ويتعرّضون للتعذيب والضرب والاغتصاب والإهانة كي يشعروا بالخجل من أنّهم فلسطينيون وكي ينقطعوا عن انتمائهم ويتخلّوا عن إيمانهم بحقّهم في الأرض. وها هم وزراء في حكومة الكيان الإسرائيلي المغتصب يدعون لإلغاء اللغة العربيّة في المدارس التي يتعلّم فيها أكثر من مليون فلسطيني يعيشون في الأرض المحتلّة عام 1948، أوليس من واجب الجميع اليوم أن يدركوا أنّ من واجبهم ضمان عدم تكرار حدوث مثل تلك الإبادات المشينة التي حدثت باسم الحضارة الغربية، وذلك من خلال العمل على وقف إبادة مماثلة تجري اليوم في فلسطين وذلك بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وتأييده في حقّه التاريخي بأرضه ومقدّساته ولغته وثقافته؟ أم أنّهم سوف ينتظرون مئتي عام أخرى ليعتذر أحد حكّامهم من بقيّة باقية من عرب فلسطين؟ الفلسطينيون أيضاً قرأوا تاريخ الإبادة في تجارب الاستيطان الغربيّة المماثلة، وهم واعون لحضارتهم وثقافتهم ولغتهم وانتمائهم وقد قرروا مقاومة الإبادة، والحصار، والمعابر لمنع إبادة شعبهم ولن يتمكّن أحد مهما طال الزمن أن يحلم بإهدار حقّهم في الحريّة. ولكن الاطلاع على مصادر الشعوب الأصلية التي تعرضت للإبادة في كندا واستراليا توضح اليوم أن الأطفال كانوا هم المستهدفين دائماً في حروب الإبادة ولذلك فإن الطفلة هديل السميري ذات الستة أعوام والتي قتلها الإسرائيليون في غزة في 12 حزيران الحالي، مثلها مثل مئات من أطفال فلسطين لم تقتل خطأ بل قتلت ضمن حرب إبادة منظمة عمرها ستون عاماً، فكم سيسمح العالم الذي يغلق أذنيه وعينيه عن مأساة شعب كامل يحاصره حكام إسرائيل داخل سحن كبير بهدف الإبادة؟ أصبح خبراً عادياً أن نسمع في نشرات الأخبار أن إسرائيل «تستمر في إغلاق المعابر» ومعنى الخبر على ضوء الواقع إن إسرائيل تستمر بممارسة العقوبات الجماعية ضمن حرب الإبادة التي تشنها ضد المدنيين العرب والمطلوب اليوم ليس مؤتمراً للمانحين ولا تبرعات من يتصدقون ببعض ثرواتهم لإرضاء ضمائرهم، بل المطلوب هو الموقف الواضح ضد ما يتم ارتكابه بحق الأبرياء في فلسطين والعراق بذرائع مكافحة الإرهاب وبأهداف خطيرة جداً تعمد إلى الإبادة الجسدية والثقافية والعرقية التامة. هل يمكن للعالم الديمقراطي أن يتعظ مما حدث في القرنين الماضيين ويعبّر عن تحضره بعدم السماح لتلك الجرائم المشينة أن تتكرر في القرن الواحد والعشرين؟ هل من يعمل في كلّ مكان ويرفع صوته لوضع حدّ نهائي لحروب الإبادة الاستيطانية في منطقتنا؟

www.bouthainashaaban.com