ما هو موقع اليمن في خيال دولة «ولي الفقيه»؟

TT

تختلف إيران عن بقية دول العالم في بناء استراتيجيتها القومية الداخلية والخارجية، لأنها دولة أسست مشروع الدولة على مقولات أصولية غيبية، هي في بنية فكر الثورة الحق المطلق وما عداها باطل، هذه المقولات هي المحدد الأساسي لشرعية الدولة والنخبة الحاكمة، فالدولة التي يديرها ولي الفقيه نائب الإمام الغائب في نهاية التحليل دولة مرحلية وظيفتها تهيئة العالم لظهور المهدي، ناهيك من أن دولة ولي الفقيه هي علامة بارزة ومن المبشرات لخروج الإمام.

وهذا لا يعني ان الدولة لا تتبع سياسات عقلانية بل ان الدولة الإيرانية تتحرك في الداخل وفي محيطها الإقليمي والدولي متبعة سياسات قومية واضحة مثلها مثل أي دولة أخرى، إلا أن الغاية التي تهيمن على صُناع القرار الفعليين هي غايات غيبية تتمحور جميعها حول الغيبة والظهور للإمام الثاني عشر، وكل سلوك يحقق تلك الغايات هو في حكم الواجب الديني والقومي.

الملاحظ أن سياسة ايران الخارجية تركز بشكل أساسي على مسائل الأمن في بعديه العسكري والثقافي، والسياسة الخارجية في نهاية المطاف هي تعبير عن النخبة المهيمنة وحاجتها لتصدير مشاكلها الداخلية وبناء شرعية داخلية وخارجية، حتى تكون قادرة على فرض هيمنتها على المنطقة العربية خصوصا الشام والعراق والجزيرة العربية والتي تشكل في البناء العقدي الغيبي للخمينية رأس الأمة التي سينطلق منها الإمام لتحرير العالم.

بناء القوة الداخلية، لدى ايران، غالبا ما يركز على القوة العسكرية والإعلامية نظرا لضرورتها في دعم قوة الدولة وبث أفكارها، والقوة الاقتصادية ليست إلا قوة داعمة للمؤسسة الأمنية، أما القوة الثقافية والفكرية المرتكزة على الأبعاد الغيبية فهي الكفيلة بترسيخ شرعية الملالي في الداخل وفرض هيمنتهم على القوى التابعة في الخارج.

استطاعت إيران أن تجعل من القيم الثقافة بأبعادها الغيبية والثورية قوة حقيقية في صراعها، ومع التواجد الشيعي في مجالها الحيوي، فإن الثقافة والفكر أصبحا في المواجهة رهانا جيوسياسيا، ومع الاتصالات الحديثة تمكنت دولة ولي الفقيه من تكوين آليات تواصل فعالة مع الجماعات الشيعية حتى في الدول التي تتمتع بقدرات أمنية عالية، وتحولت الوسائل الإعلامية الجماهيرية إلى أدوات لإعادة صياغة الثقافة بما ينسجم مع رؤيتها الدينية والسياسية ليس في الأوساط الشيعية بل في الوسط العربي والإسلامي المختلف معها عقائديا.

إلى ذلك استطاعت الدعاية الإيرانية إعادة صياغة جزء من الرأي العام في العالم العربي والإسلامي بحيث أصبح مقتنعا بأن إيران هي الدولة المستقلة عن الإرادة الدولية والمدافعة عن مصالح العرب والمسلمين وان أنصارها في العالم العربي هم وحدهم من يدافعون عن المصالح الإسلامية ويواجهون أعداء الله وان غيرهم متخاذلون ومهزومون وخونة، وهذا البعد مهم لتهيئة الآخرين لقبول هيمنتها.

وثقافة الصراع والاتجاه نحو بناء القوة النووية سيجعل إيران في المستقبل أكثر تهورا في فرض هيمنتها ونشر إيديولوجيتها، بل ان تفجير الصراعات في كل اتجاه أمر حتمي لتهيئة العالم لعصر الظهور، ولن تتوانى عن استخدام سلاح التدمير الشامل لأن الإمام الغائب لن يخرج إلا بعد زوال إسرائيل وبعد ان تملأ الأرض ظلاما وجورا، حسب البناء العقدي للنظرية الشيعية.

والسؤال هنا: أين موقع اليمن في استراتيجية دولة ولي الفقيه؟

بادئ ذي بدء يوجد في اليمن تيار غالب يرى أن إيران دولة معادية لمصالح العرب، وأن الحوثية ليست إلا أداة إيرانية مهددة لمستقبل اليمن ومصالحه، وفي المقابل يوجد تيار آخر ويمثل الأقلية لكنه قوي، هذا التيار متأثر بالخطاب السياسي للثورة الإيرانية، لذا فإنه يؤيد سياسات إيران الإقليمية، وهذا التيار معجب بالتجربة الخمينية ويرى أنها نموذجا لمقاومة وتحدي إسرائيل والغرب، ويتم تسويق صورتها كدولة تقود مشروع النهضة الإسلامية وتحرير العرب والمسلمين من واقعهم البائس.

هذا التيار الذي يعبر عن نفسه بقوة ووضوح في النقاشات السياسية يؤكد ان مصالح اليمن هي بالتوافق والانسجام مع الإستراتيجية الإيرانية، ويسعى هذا التيار المتواجد بقوة في الحياة السياسية نحو الدفع باليمن خارج منظومة الخليج العربي، والاتجاه بها نحو طهران ومحورها في المنطقة العربية، وعادة ما يشكك أنصار هذه الرؤية وبإلحاح؛ بإمكانية ضم اليمن إلى مجلس التعاون، ويرى هذا التيار ان التوجه نحو إيران سيجعل الموقف اليمني أكثر قوة في مواجهة الخليج الذين يتم تصويرهم أنهم عملاء للغرب.

بالنسبة لإيران فان اليمن في إستراتيجيته القومية ذات بعدين: احدهما بعد غيبي فالكتب الدينية الاثني عشرية تؤكد أن اليمن هو من أهم المقدمات المهمة لعصر الظهور، والذي قد بدأت معالمه تظهر في إيران وفي العراق وجنوب لبنان وغيرها من مناطق العالم.

فمن جبال «صعدة» سوف يخرج اليماني ويقود ثورة إسلامية مؤسسة على أفكار الإمام الغائب، ودور اليماني يتمحور في أنه سوف يساعد مؤيدي الإمام في الحجاز، ثم يتجه بعد أن يستتب الأمر له في الجزيرة العربية نحو العراق لمساعدة أنصار الإمام في مواجهة السفياني، وراية اليماني هي أنقى الرايات وأصدقها، وهي على الحق ومن خالفها فهو في النار، بل إن العقائد الخمينية ترى أنها أنقى من راية الإيرانيين، وهذا ربما يفسر تركيزهم على منطقة صعدة وسعيهم لتشييع اليمن، والحركة الحوثية المدعومة من المراجع الشيعية منبعها صعدة.

أما البعد الثاني فهو الجيوستراتيجي وهو ذو علاقة وثيقة بالبعد الغيبي، فاليمن هو الحاضن لجزيرة العرب وهو الخاصرة الجنوبية للجزيرة، والتي تشكل في العقيدة الثورية الإيرانية القوة الرادعة لطموحاتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية، فالمجتمع في الجزيرة العربية يؤسس شرعيته على قيم إسلامية مناهضة للفكر الغيبي الاثني عشري، ويرى من إيران أن القوى المتطرفة في إيران خطر أمني وفكري مواجهته ووقفه عند حدّه مسألة وجود.

من جانب آخر فإن اختراق منظومة الأمن القومي العربي من الجنوب، وتحويلها إلى منطقة تابعة لولاية الفقيه سوف يمكن إيران من الهيمنة على البحر الأحمر والبحر العربي، وبالتالي محاصرة مصر والقوى المعادية لإيران، كما أن اليمن سيكون أداة إيران إلى القرن الأفريقي والسودان ومحاصرة مصر من الجنوب.

وإخراج اليمن من منظومة الجزيرة العربية في استراتيجية دولة ولي الفقيه سوف يضعف مجلس التعاون، ويشغل السعودية وعمان، وهذا سوف يسهل لإيران تمرير مصالحها في منطقة الخليج وسوف تسعى إيران بالتهديد والإقناع من أجل الدول الخليجية الأخرى لتصبح تابعة لإستراتيجيتها، ومن ثمّ عزلها عن العرب ودفع دولها لتبني سياسات مناهضة ومتناقضة مع مصالح الأمة العربية.

كما أن عزل اليمن عن الخليج وتحويله إلى منطقة معادية هو نتيجة تخوف إيران من إضعاف مضيق هرمز، فالعلاقات اليمنية الخليجية سوف تسهل إخراج النفط والتجارة عبر البحر العربي، بعد شق قناة تربط بحر العرب بالخليج العربي فيفقد مضيق هرمز أهميته الإستراتيجية.

وفي الختام نقول إن إيران على قناعة بإمكانية تشييع اليمن سياسيا في المرحلة الراهنة، خصوصا والمناطق الزيدية تتركز فيها القوة السياسية والعسكرية، وفي ظل ظروف اليمن الصعبة، وإهمال العرب لليمن، فإن تعلقها بإيران قد لا يلاقي صعوبات كثيرة، كما أن التيار المؤيد لإيران بما يملك من خبرة قادر على إقناع الساسة في الحكم والمعارضة بالاتجاه نحو إيران، وهذا التيار قادر على خلق تحالفات مع الأطراف المختلفة في اليمن، ونؤكد ان إلحاق اليمن بالمحور الإيراني سوف يدعم وبقوة اختراق دولة ولي الفقيه للعالم العربي ويقوي من حلفائها في المنطقة.

* كاتب يمني