أزمة مياه

TT

مع حرارة الصيف الآخذة في الارتفاع يستعيد العرب في أكثر من بلد عربي ذكرياتهم السنوية الأليمة مع المياه. المياه التي تتدلل عليهم فيكثر غيابها بالأيام والليالي، ولا يعود مشهدا غريبا رؤية الرجل العربي دون أن يغسل وجهه أو يحلق شعر وجهه أو يتحمم ولسانه خارج من فمه من العطش. قد يكون الوصف هزليا وساخرا، ولكن الغرض الأول هو إيصال الصورة بشكلها الأقرب إلى الحقيقة. ففي أكثر من دولة عربية تحولت المياه إلى أزمة والهاجس الخدمي رقم واحد للمواطن والدولة. فطوابير المنتظرين على أبواب مصالح المياه في انتظار حلول لمشاكلهم في ازدياد، ونظرا لتأزم الوضع بشكل درامي نتج عنه ظهور «فرق إنقاذ متخصصة» هي أقرب منها لعصابات المافيا الانتهازية منها إلى شركات ومؤسسات تقوم بتوفير هذه السلعة الحيوية بشكل لائق. التراث العربي مليء بالأغاني التي تمجد المياه وترفع من شأنها فمن ينسى «الميه تروي العطشان» و«بين شطين وميه» و«ملا الكاسات وسقاني» و«اسق العطشان» وغيرها من روائع الطرب المعروفة، وهي تحاكي واقعا فيه الكثير من الشجن والتذكر الجميل بواقع كان غزيرا بالمياه والآن تحولت أزمة المياه إلى أزمة نفسية، كما وصفها أحد المسؤولين مؤخرا، وأن المشكلة «ليست بهذا القدر» وما يتم وصفه هو مبالغات وتهويل وتضخيم. مشكلة المياه في العالم العربي هي انعكاس للمشكلة العالمية نفسها، ولكن من الواضح إن إدارة الأزمة عربيا تأخذ منحى مختلفا تماما وتغلب عليه عناصر العشوائية والتخطيط قصير الأجل. مشكلة المياه لن تتحسن بل هي مرشحة لأن تزداد سوءا في فترة قريبة مع اهتراء البنية التحتية المقدمة لهذه الخدمة، والازدياد المهول في نسبة النمو السكاني، وكذلك فشل سياسة الترشيد المائية، وعدم وجود خطة محكمة لإعادة تدوير المياه واستغلالها للغسيل العام والري وغيرها من الاستخدامات المشابهة. هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في السياسة الزراعية وصناعة الألبان التي تسببت في هدر كميات مهولة من منسوب المياه الأرضي والاستراتيجي، وهناك حاجة ماسة لتطوير مفهوم التخزين الطويل الأجل لسلعة المياه الحيوية والبالغة الأهمية. جوانب عدة أدت إلى تفاقم الأزمة منها سوء الإدارة وخلل في توزيع الموارد وعلة في الكفاءات البشرية، وتدهور في منظومة الثواب والعقاب بشكل واضح وكبير. المياه ليست أقل أهمية من الخبز ولا من الكهرباء ولا من التعليم ولا من الصحة ولكنها تركت وأهملت لسنوات، ولم يوضع لها البعد الاستراتيجي في خطط التنمية مثل غيرها من المحاور، واليوم تدفع قيمة هذا الإهمال أضعافا مضاعفة ويبقى الحال كما هو عليه حتى إشعار آخر. ملف المياه الأسود يضاف إلى أزمات العالم المتزايدة، والحرب على المياه التي بدأت بالرصاصة «النفسية» قد تتحول إلى صراع من أجل الحصول على قطرة ماء بأي وسيلة، فنبدأ في مشاهدة هجرات جماعية بحثا عن منابع المياه كما كان يحصل قديما، واليوم سيأخذ هذا اشكالا مليئة بالقلق والاضطراب الاجتماعي وفي هذه تكلفة باهظة لن يقدر عليها أحد.

[email protected]