أم الملايين

TT

انا مدين للقاهرة بالاعتذار. وربما سواي ايضاً. فنحن لا نكف عن توبيخها. مدينة الزحام والالتحام. بشر بلا نهاية. احياء احياؤها بالملايين. حارات حاراتها حائرات محيرات. اهلها فوق الارض وتحت الارض. مصر الجديدة اصبحت منذ عقود مصر القديمة. ومدينة نصر اصبحت في امس العصر. اصبحت قلب الزحام مثل ميدان التحرير و26 يوليو وشارع سليمان والازبكية.

كل منا يريد القاهرة لنفسه. وكل جيل يدعي انها كانت اكثر هدوءاً وكانت اقل ازدحاماً. وهذا غير صحيح. هذه مدينة ولدت في الزحمة. احتضنت آلاف التوائم. 16 مليوناً اليوم يعادلون تماماً 650 الف نسمة في القرن الرابع عشر. كان يقال يومها انها اكبر مدينة غرب الصين. كان عدد سكانها 15 ضعفاً عدد سكان لندن. وكتب رحالة ايطالي العام 1384 ان سكان حارة واحدة في القاهرة اكثر من سكان فلورنسا برمتها. والاسكندرية كانت اكبر ميناء على المتوسط، ترى منارتها العظيمة من اعالي البحار. وعندما يتحدث الناس عن ترابط القاهرة والاسكندرية عمرانيا ينسون ما كتبه ابن بطوطة: «هناك سلسلة من الاسواق من القاهرة الى الاسكندرية». وقد رأى مدنا وقرى تتزاحم على ضفتي النيل «لا نهر في الارض مثله. انه بحر».

كانت مصر في زمن ابو عبد الله محمد ابن بطوطة سوق العالم. التجار يأتون اليها من جهات الارض ويذهبون. هي كانت ما نعرفه اليوم بالشرق الاوسط، بحواضرها ومدنها وموانئها. وعندما قارن ابو عبد الله بين طنجة التي جاء منها والاسكندرية هتف قائلا شتان ما بين الميناء الصغير والميناء الكبير. لكن الزمن تبدل يا ابا عبد الله. عليك برحلة الى طنجة اليوم. لم تعد مدينة الشعر والكسل والكيف. انها الآن ميناء يفوق الاسكندرية. وقد ازعجني ان «طيران الامارات» اوقفت رحلتها الى الاسكندرية لأن لا جدوى اقتصادية منها. لقد قرأنا العكس عن المدينة التي قيَّض لها محافظ اعاد تجديد شبابها الجميل. لكنها القاهرة، تخطف كل مصر وتحتضن كل الناس وتترك الآلاف منهم ينامون على ضفتي النيل.

انه موقع مصر. والشعور القدري بأن الله الذي اعطى مصر النيل سوف يعطيها كل شيء آخر مهما تكاثرت. ولكن الشرط ان تستعيد القاهرة ايضاً عصرها التجاري كما كانت ايام البهارات والافاويه. وكنا نعتقد ان عظمة البهارات كانت في طعمها. لكن الحقيقة يا مولاي انها ازدهرت لأنها استخدمت في تقديد اللحوم قبل زمن البرادات والكهرباء واللحم المثلج. خصوصاً في البلدان الحارة التي لا جبال عالية فيها مثل البيرنيه حيث لا يزال الاسبان يقددون اللحوم!