المشروع المتوسطي: هل هو فقاعة أم ماذا؟

TT

على ضفاف البحيرة المتوسطية، نشأت حضارات وامبراطوريات، كان تاريخها صداما مسلحا وكراهية عميقة على مدى ألف عام. من هنا، ينظر العرب بكثير من الدهشة والتساؤل إلى تلويح أوروبا لهم بالشراكة المثالية، وصولا إلى دعوة فرنسا ساركوزي لهم إلى اتحاد متوسطي.

في التعامل بين دول وشعوب وقارات، لا يمكن الغاء الذاكرة وتجاهل التاريخ. غزا العرب والأتراك المسلمون أوروبا، وأقاموا فيها قرونا، ثم غزتهم أوروبا الصليبية، ثم غزتهم أوروبا العلمانية. الغزوات أدت إلى ردود فعل عربية متباينة تتراوح بين الانكفاء على الذات، والتحدي القومي أو الديني.

من هنا، فالثقة العربية بأوروبا الجديدة، أوروبا اللااستعمارية، محاطة بكثير من الحذر والشك، لا سيما ان الثقافة السياسية السائدة الآن في المجتمعات العربية هي ثقافة انطوائية يستغلها تسييس الدين لتغييب العرب عن العصر وعن العالم.

بفعل الذاكرة والتاريخ والتجربة الطويلة مع أوروبا، وبفعل الاسلام السياسي المتزمت والمهاجر إلى أوروبا، بات العرب غير واعين للتغير النفسي الهائل في القارة القديمة.

الأوروبي اليوم يريد ان يجوب العالم سائحا لا جنديا. الأوروبي اليوم أكثر تسامحا وانعتاقا من التعصب الديني، على الرغم من صيحات عنصرية واعلامية معادية التي تظل فردية لا تمثل الاتجاه الاجتماعي العام.

أضرب مثلا بفرنسا. الفرنسيون أكثر شعوب أوروبا فهما وتعاطفا إزاء القضية الفلسطينية، ولوما وتوبيخا لاسرائيل. وعلى هذا الانقلاب «الأورو فرنسي»، أستطيع أن أفسر مبادرة الرئيس ساركوزي إلى دعوة العرب إلى بناء مشروع اتحادي متوسطي يريده أن يكون سياسيا واقتصاديا.

الدعوة، إذن، ليست ساذجة، أو فقاعة عابرة كما يتوهم معظم المعلقين العرب، إنما هي دعوة مبكرة في ظروف عربية غير ملائمة سياسيا ونفسيا، ظروف الألم والعجز إزاء إدارة أميركية جاهلة ومتحيزة في فلسطين، وغازية للعراق ومدمرة لعروبته.

بكل هدوء وبلا حرج، أتوسم في ساركوزي (المعجب باسرائيل) حسن النية إزاء العرب. على أية حال الأمور رهن بالفعل والنتائج. لكن أشعر من خلال متابعتي لحياته السياسية، بحكم إقامتي الطويلة في فرنسا، ان الرجل ما زال غير فاهم تماما للعرب.

فهو يبدو داعيا لهم إلى وحدة جغرافية، تتجاوز (كي لا أقول تتجاهل) عاطفتهم نحو وحدة عربية، نحو انتماء واحد، تعبر عنه الثقافة واللغة والتاريخ، أكثر مما تعبر عنه دولهم وأنظمتهم المتناحرة.

بمعنى آخر، ربما لقي المشروع المتوسطي نجاحا عمليا وقبولا أكبر، لو أن ساركوزي دعا إلى تحويل الجامعة العربية إلى اتحاد عربي، من دون أن يخسر الجانبان هويتهما المميزة. كعربي عادي، مقيم في فرنسا منذ أكثر من ثلاثين عاما، أشعر بأنها باتت وطني في المنفى لكني أظل عربي الشعور اكثر مما أنا متوسطي الاعتقاد.

بَشَّرَ بالمتوسطية الثقافية ساسة ومفكرون عرب كبورقيبة وطه حسين. رؤيتي كعربي للمتوسطية تقتصر على الرغبة نحو الخروج من أسر الذات. نحو الاستدارة إلى ثقافة انسانية تعددية، بعيدة عن الكآبة والشمولية التي يفرضها مشروع تسييس الدين بوجهه الإخواني أو العنفي أو الإيراني.

أثبتت أوروبا ان وحدتها سهلة وممكنة على الرغم من تنوع نظمها الجمهورية والملكية. انعدام قدرة العرب على تجديد وتأصيل المحاولة الوحدوية القومية، أو تطوير جامعتهم إلى اتحاد، هو الذي يشجع الغرب على تداول وطرح مشاريع وحدات جغرافية. لا أريد ان استرسل في الحديث عن وحدة عربية غائبة أو صعبة أو مستحيلة في ظروف التشرذم الراهنة، انما لتذكير عرب المتوسط بأن من العسير الاستدارة نحو البحر وتجاهل «عرب الداخل»، عرب الخليج والعراق والسودان واليمن. الروابط بين عرب المتوسط وعرب الداخل أقوى بكثير من أي شعور بانتماء جغرافي يتذبذب فوق موج المياه.

جبال من الموانع أمام دينامية ساركوزي ومبادراته الديبلوماسية «الوحدوية». دول عربية فرادى ستأتي إلى باريس تحمل معها سياساتها وخلافاتها وهواجسها، بدلا من دعوتها كمجموعة عربية معترف بها، وتشعر بقوتها لا بضعفها.

بلدان المغرب العربي التي أخفقت في احياء اتحادها السياسي والاقتصادي ترغب في دعم أوروبا لاقتصادها أكثر من الاتحاد السياسي معها. القذافي «الوحدوي» في رفضه «الاتحادات» المطروحة مع أوروبا لمس التوق العربي نحو التمسك بالهوية والانتماء لكن لغته الرافضة، في عصر التوبة، بحاجة إلى لسان آخر أكثر لباقة في التعامل مع العرب، ومع فرنسا وأوروبا.

الأمل كبير في أن يستطيع ساركوزي تقديم تفاصيل وايضاحات وشروح لمشروعه الغامص، وبلورة ذلك في مشروع ميثاق مهيأ للحوار، كي لا يبدو «الاتحاد» مجرد فقاعة عابرة كزبد البحر. ثم ماذا مثلا عن دور مصر في الاتحاد. هل تقبل دول المغرب بزعامة ثنائية فرنسية مصرية لمشروع الاتحاد؟ تركيا مشكلة أخرى. هي تريد دخول الاتحاد الأوروبي، لا المتوسطي. الطرافة ان زيباري وزير الخارجية العراقي المنهمك في استدعاء أميركا لاقامة قواعد عسكرية ثابتة في بلده. يتناقض مع نفسه وسياسته، في الالحاح على فرنسا لوصل «الرافدين» بالبحر وضم العراق إلى اتحاد لم يولد بعد.

المشكلة الأكبر هي سورية. بشار يحاول القفز فوق عزلته العربية نحو انفتاح على أوروبا وفرنسا. براغماتية ساركوزي تعيد الوصل معه. تعتبر دوره أساسيا للجم منظمات العنف الديني في غزة والضفة ولبنان التي يؤوي قادتها في دمشق، وربما لإبعاده عن وَلَعه «المدمن» بإيران.

كلي أمل، إذا حضر الأسد قمة المتوسط في باريس، ان لا يأتي مصحوباً بفرقة الهتّافة المتخلفة (بالدم. بالروح. نفديك يا بشار). الفرنسيون لا يفكرون بافتداء رؤسائهم، بمن فيهم ديغول، بدمائهم أو أرواحهم.

تلك بعض خواطر متناثرة عن المشروع المتوسطي، كنت ارغب أن تكون دراسة عن مشاريع مشابهة كمتوسطية برشلونة الفاشلة، وشرق أوسطية بوش وكوندوليزا وباريس.

على أية حال، إذا جمع ساركوزي الأسد وأولمرت في قمة باريس المتوسطية (13 يوليو الحالي)، فالرئيس السوري مطمئن. لن يستطيع أولمرت، كعادته، وضع يده على كتفه. بسبب «جغرافي» بسيط للغاية: بشار هو الأطول.