مثقف 1948 وأزمة النخب الفلسطينية

TT

لماذا تتركز النخب السياسية والثقافية والإبداعية الفلسطينية كماً ونوعاً في مناطق فلسطين عام 1948؟ وما هي الأسباب التي تحول دون ظهور نوعي لهذه النخب في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ وما هي العوائق الحقيقية التي حالت وتحول دون بروز نخب نوعية جديدة في المناطق الفلسطينية المحتلة؟

قد تبدو هذه الأسئلة استفزازية نوعا ما، وربما أوحت للبعض بالتعصب لجهة فلسطينية على حساب أخرى، إلا أن تلك الحساسيات الجهوية المتأصلة عند الفلسطينيين لا تستطيع بأي حال إعفاء الباحث في هذا المجال من رصد هذه الظاهرة اللافتة التي بالإمكان ملاحظتها والاستدلال عليها في المجالات كافة دونما مشقة. نستطيع أن نذكر أسماء الكثير من النخب السياسية سواء منها القومية أو الإسلامية أو العلمانية أو حتى الشيوعية داخل الخط الأخضر من أمثال نواف مصالحة وعزمي بشارة ورائد صلاح وغيرهم كثر، في الوقت الذي نجد فيه صعوبة بالغة لتذكر أسماء توازيها في المناطق الفلسطينية المحتلة. كما بإمكاننا أن نتحدث عن الكثير من الأعلام في مجال الأدب داخل الخط الأخضر، أكثر بكثير مما لدى المناطق الفلسطينية خارج الخط الأخضر من أمثال الروائي إميل حبيبي أو في مجال الشعر مثل محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وغيرهم. وفي المجال السينمائي نجد أن فلسطينيي 48 قد تفوقوا على أشقائهم فقدموا سينمائيين متميزين قاموا بإخراج أعمال متميزة وصلت إلى العالمية، مثل فيلم «الجنة الآن» لمخرجه هاني أبو أسعد، وكذلك قدم ميشيل خليفي وإيليا سليمان أفلاما لا تقل أهمية. وحتى في مجال الغناء يمكننا الحديث عن أسماء لامعة ومتميزة من فلسطينيي الخط الأخضر من أمثال ريم البنا وأمل مرقص وغيرهما. كما لمعت أسماء لا تقل أهمية في مجال الإبداع المسرحي حيث تألق مسرح الميدان وقدم أعمالا مهمة وعالمية تضاهي الأعمال المسرحية التي قدمها مسرح القصبة في رام الله بالضفة الغربية.

ولعل الإقرار بتلك الحقائق لا يعني مطلقا عدم وجود مبدعين، أو عدم وجود استعدادات فردية للعمل الإبداعي في المناطق الفلسطينية المحتلة في العام 1967، كما لا يعني التقليل من شأن ما ينتج في هذه المناطق، إلا أن ما ينتج لم يرتق بعد إلى نظيره الفلسطيني المنتج داخل الخط الأخضر، مما يقودنا إلى البحث عن الأسباب التي تجعل هذا الأمر ممكنا هنا ومتعثرا هناك.

لا يمكن بأي حال إعادة السبب أو الأسباب في هذا الاختلاف إلى ظروف الاحتلال فقط، لأننا سنلاحظ في هذا المجال أن فلسطينيي عام 1948 قد عانوا في البداية ظروفا لا تقل قسوة ووطأة عن نظرائهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهؤلاء فصلوا قسرا عن محيطهم العربي وثقافتهم العربية، كما أن الدفاع عن الهوية وعن البقاء كانا بالمقدار ذاته هاجسهم سواء في الماضي أو في الحاضر.

فمسألة إثبات الذات والبقاء في الوطن بالنسبة لفلسطينيي 1948، لم تكن عملية سهلة في أي حال من الأحوال، لا بل يمكننا القول إن ظروف فلسطينيي الضفة وقطاع غزة في هذا المضمار كانت أقل وطأة على اعتبار أنهم بقوا على تواصل مع محيطهم العربي بشكل أو بآخر، فقد ظلت الضفة الغربية مرتبطة تعليميا وثقافيا بشكل مباشر بالأردن وكذلك قطاع غزة بمصر. أما في إسرائيل فإن الأوضاع كانت على النقيض من ذلك، فقد اشتغلت إسرائيل بهمة ودأب على تذويب هوية فلسطينيي الخط الأخضر، في الوقت الذي أهملت فيه الفلسطينيين الذين تعرضوا للاحتلال بعد عام 1967، ومع ذلك استطاع فلسطينيو إسرائيل التميز والإبداع.

وربما كان من الصحيح اعتبار أن العمل الإبداعي هو عمل تراكمي يحتاج أكثر ما يحتاج إلى مساحة واسعة من الحرية التي توفرها الدولة. وهذه الحقيقة يجب الإقرار بها. وإذا كان القول إن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر يعانون التمييز العنصري من قبل السلطات الإسرائيلية صحيحا، فإنه من الصحيح أيضا القول، إن هذا التمييز العنصري لم يصل إلى حد تحوله عائقا يمنع الفلسطينيين في إسرائيل من التميز والإبداع وانتزاع اعتراف سلطات الاحتلال بأعمالهم ومنجزاتهم. نقول هذا ونحن نذكر كيف استطاع الكاتب والروائي أميل حبيبي أن ينتزع الاعتراف بأهميته عندما فاز بجائزة الدولة للإبداع في إسرائيل منذ ثلاثة عقود، هو الذي تناول في أدبه الهوية الفلسطينية من كل جوانبها الوطنية والإنسانية، كما لم يقدمها أي أديب فلسطيني آخر. وكذا الأمر في الشعر الذي لا يزال يتصدره محمود درويش الذي بلغ الاعتراف به من قبل إسرائيل إلى حد طرح إدخاله في المناهج التعليمية الإسرائيلية الأمر الذي لم يتوفر لأي شاعر في المناطق الفلسطينية خارج الخط الأخضر.

لا شك أن العمل الإبداعي بحاجة إلى فضاء واسع من الحرية ومن الانفتاح على الآخر، ولكن هذا ليس كل شيء لأن العمل الإبداعي يحتاج أيضا إلى دولة تنظم المجتمع وتنظم الحقوق والواجبات في هذا المجتمع، وأن إسرائيل استطاعت بالفعل أن توفر مثل هذا التنظيم الاجتماعي في المجتمع لديها الأمر الذي أتاح للفلسطيني الفرصة لاستثمار هذه التنظيم وفتح المجال أمامه ليتطور ويبدع ويقدم نخبة فلسطينية متميزة في كافة المجالات. إن مثل هذا الأمر لم يتوفر لفلسطينيي المناطق المحتلة العام 1967.

إن خلو المناطق الفلسطينية من ذلك التنظيم المؤسساتي الذي يمكن أن يرتقي إلى مستوى الدولة قد ساهم ليس فقط في تأخر حالة الإبداع لديهم بل أيضا في ممارستهم لحالة الانغلاق على الذات وعدم السعي للاحتكاك بالعالم وبالتجارب العالمية في هذا المضمار. فإذا كان الاحتلال قد ساهم بطريقة أو بأخرى في عزل هذه المناطق عن العالم، فإن الفلسطينيين قد ساهموا في تضييق الخناق وفي قتل أية مبادرات إبداعية. فهل يعقل أن مدينة مليونية مثل غزة ليس فيها أي دار للسينما؟ هذا القرار لم تتخذه سلطات الاحتلال، كما قد يحلو للبعض أن يعتقد، بل هو صناعة وطنية فلسطينية خالصة نتيجة غياب أية رؤية عن الكيفية التي تخلق بواسطتها النخبة الإبداعية. ليس هذا فحسب بل لنا أن نلاحظ أن العديد من فلسطينيي عام 1967 الذين أبدعوا خارج وطنهم هم أكثر كماً ونوعاً من الفلسطينيين الذي يعيشون في وطنهم، الأمر الذي يعزز فكرة عدم قدرة الفلسطينيين خارج الخط الأخضر على التميز في ظل عدم وجود رؤية للكيفية التي يتم من خلالها بناء مؤسسات عصرية قادرة على تنظيم المجتمع الفلسطيني وفتح الفرص أمامه للتطور والإبداع.

* صحافية فلسطينية

مقيمة في فيينا