«هيَّ الحُكومة.. »!

TT

بعد ثلاثين سنةً التقيتها، وقد تماهت سحنتها حزناً بسواد عباءتها، التي لم تستبدلها ببالطو أفغاني، ولا بجادور إيراني. لم أسمع ما تمتمت به في سكرة العناق، أخبرني مَنْ كان حولنا أنها قالت: «هَمَّ راح تروح» (ستذهب أيضاً)! قصت عليَّ من المذهلات ما يصعب سكبه في قرطاس، وكم كاتب، أكثر سيولة قلم، فشل بعكس واقع مصيبته! وتراني أبرر لروائيي وشعراء العراق ورساميه كونهم لم يقدموا عملا بمستوى ما مرَّ على البلاد من «العاصفات عصفاً».

قالت: اضطررنا البراءة من عواطفنا، مع أن لظاها يلهب الصدور، وتبدلت العادات واهتزت الأُصول. ومن المفزعات: أن رميت (1986) جونية (كيس)، على أنها صيد طيور من الهور، إلا أنها كانت ملأى برؤوس شباب. سألتها لمَنْ! قالت: الجنود الفارين! لكل رأس ثمنه! عندها أدركت أن قطع الرؤوس ليست ممارسة مستحدثة بعد التاسع من أبريل 2003!

أطرف ما قالته أمي، وما أترجمه إلى الفصحى: كان لدى رئيس دائرة الأمن، التي استقطعت قطعة من أرضنا، كلب حراسة لا شاكم له! ولما صارت الانتفاضة (آذار 1991) هرب الأمن ورئيسه، وأيام وهرب المنتفضون! هرب أغلب الناس ومعهم شباب الدار وشيوخها! أما أنا فعزَّ عليَّ ترك الحلال (بقرات ودواجن) بلا راعٍ! ظل يدور الكلب جائعاً حول الدار الموحشة، ذات النخلات والسدرات، وأنا وحيدة، فقمت أطعمه وأسقيه، حتى صار يحرسني! ونسي أنه كلب الأمن!

عندها أخذتُ أخفف عنها بحافظتي من كتاب ابن المرزبان (ت 309هـ) «تفضيل الكلاب على كثير ممنْ لبس الثياب»، الذي كتبه رداً على محنته مع أبناء عصره من بني البشر، فأتى بقصص ليست على بال. ووجدتُ لدى ابن الحجاج (ت 391هـ) ما يُضرب ولا يقاس به: «إن الملوك إذا هُم اقتتلوا.. أصبحتُ فيهم كلبَ مَنْ غَلَبَا» (تلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج). ثم قالت: «كل هذا شفناه من الحكومة»! «يمة سايمة الله عليك بطل تكتب على الحكومة»! قلت لها: ذهبت الحكومة التي تخافين، ولدينا حكومة والمفروض ألا تأخذ الناس بالكلام، وبما تحبره الأقلام. قالت: «يمه.. هي الحكومة شركَت لو غربت»! هذا، ومازالت عبر التلفون تحذر من الكتابة ضد الحكومة بخوف الماضيات! وكأن الأيام لم تتبدل.

حتى هذه الساعة مازلت عند اعتراضي على مقولة: «هي الحكومة... »، أملا بأخرى تخفف نوائب حكومة جبروتها تعدى حدود الجبروت نفسه. أقول، بقوانين وتشريعات، لا بمجرد وعيد وتهديد، ما حفظت للآية: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» عاصمة لأحد من بطشها، بمن فيهم الأقربون بالدماء والعروق، على الرغم من حملتها الإيمانية! أقولها، ولست غافلا، عما يجري اليوم، للكاتب الناقد داخل البلاد. فما حيلة الكلمة على المواجهة بغياب العدل وإشاعة السلاح. حتى بدت الدكتاتورية المنظمة أقل قسوة وشراً من فوضى الدكتاتوريات وتعددها، لكن ما يخفف عسى ولعلَّها حالة طارئة، لا لا تجد مَنْ يمدها بأسباب الديمومة!

مع تراكم الفساد، وكثرة عقارات الخارج، وإقطاعيات الداخل، واحتكار وظائف السفارات، يبقى السماح بالكلمة، مهما كانت صاعقة، وهي تحذر من أهوال بما آلت إليه الأحوال، يخفف من غضب ويعصم من عنف، وينبه المخدرين بمدائح المستشارين والأعوان، من غير أهل الاختصاص. أقول: كيف يستقيم أمر الديمقراطية بلا صحافة ناقدة، وحتى الجارحة بمشاكساتها على شاكلة: «مرقعة الهندي» البصرية (1909) و«كناس الشوارع» البغدادية (1925) مروراً بـ «صدى الحقائق» (1929)، و«حبزبوز»(1931)، و«قرندل» (1947)، وإشاعة هجائيات الملا عبود الكرخي (ت 1947)! كان الشعار المطروح آنذاك، ومن المفروض أن يُطرح الآن، هو ما جعله أحد رواد تلك الصحافة على غرة جريدته: «شعارها خدمة الوطن ورائدها الحقيقة وإن جرحت» (من تاريخ صحافة الهزل).

لا غرو أن التصدي لمهام الدولة يفتح العيون ويُطلق الألسن، وليس لمَنْ يتخذ مِنْ الديمقراطية فراشاً ودثاراً الحق بمنع المساس بهيبته! والأمر سيكون عسيراً على الجامعين إمامة الدين والدولة بيد واحدة، ومن هنا يصبح للكلمة الناقدة ثمنها! بادر رئيس الجمهورية جلال الطالباني إلى إسقاط قدسية الذات، بعد عصمتها طوال عقود، تعاظم أمره حتى أُشد لها: «تبارك وجهكَ القُدسيُّ فِينا... » وسحب النكتة من على الشفاه، التي كان قائلها يُعدم أو يُقطع لسانه، وصار يطلقها على نفسه قبل الجمهور! وأراه أدرك خطورة جمع الضيم واللطم على العراقيين، مثلما تذرعوا لله من قبل: أن «لا يكون الطاعون والحجاج» عليهم في عام واحد (النجوم الزاهرة). لكن، على الرئيس وبقية الصدور أخذ نكات العراقيين ليست رفاهةً وترفاً إنما هي «ضحك كالبكا»!

[email protected]