متاريس في قلب المتوسط

TT

رغم هموم الداخل وانشغال الكثيرين بحفر الخنادق وإقامة المتاريس حول بناء المحكمة الدستورية في العاصمة التركية، تمهيدا لحرب ضارية مفتوحة على أكثر من احتمال، فإن أنقرة التي استبسلت خلال الاشهر الثلاثة المنصرمة في التصدي للمشروع الفرنسي حول اتحاد دول بحر المتوسط بنسخته الأولى وقلب حسابات حكومة الرئيس ساركوزي التي كانت تهدف لاستبعادها وتحجيم دورها هناك، عادت وبدلت موقفها المعارض بعد تراجع الـ«كي دورسيه» أمام الضغوطات الأوروبية والاميركية والعربية. طبعا استغلت واشنطن الفرصة بشكل مباشر وغير مباشر لنقل الهواجس التركية وإيصالها الى بروكسل عبر حلفائها الاوروبيين، لكننا اكتشفنا لاحقا انه قلق اميركي مبالغ فيه بعض الشيء مع مجيء الرئيس جورج بوش شخصيا الى باريس لتذوق الطبخة الفرنسية قبل الجميع.

مسودة المشروع المعدلة، التي تروج لها الدبلوماسية الفرنسية هذه الأيام تمهيدا لطرحها على قمة باريس المقررة في منتصف الشهر المقبل بمشاركة 40 دولة، مختلفة تماما عما كان يجول في فكر الرئيس ساركوزي قبل عامين وما وعد به الناخب الفرنسي على طريق تعزيز الموقع الإقليمي لبلاده. القمة الأوروبية المصغرة التي عقدت في روما في ديسمبر (كانون الأول) المنصرم كانت مركز الحسم حول ضرورة تبديل باريس لمواقفها وأسلوبها في التعاطي مع المسألة والتعامل بجدية مع تحفظات تركيا واعتراضاتها إذا ما كانت حكومة ساركوزي راغبة فعلا في إنجاح هذه البادرة وتأطيرها بين دول حوض المتوسط. التراجع الفرنسي جاء أولا عبر تقديم ضمانات كافية لأنقرة حول أن التكتل الجديد هذا لن يكون بديلا عن طلب العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، كما حاولت باريس الترويج له والإيحاء به قبل أشهر. الليونة الفرنسية كانت واضحة ايضا من خلال القبول بتغيير تسمية المشروع من «اتحاد دول المتوسط» الى «الاتحاد من أجل المتوسط» ثم الرضوخ لطلب الشركاء الأوروبيين خلال قمة آذار الاوروبية الاخيرة في أن تتسلم المفوضية الأوروبية نفسها ملف التكتل الجديد وإعداد الخطط النهائية وتوجيه الدعوات.

ساركوزي، الذي يعاني من مشاكل الداخل الكثيرة في هذه الآونة، يعكسها الانخفاض الحاد في شعبيته والضربة الاخيرة التي تلقاها من قبل مجلس الشيوخ الفرنسي الذي طعن في قرار البرلمان حول ضرورة اجراء استفتاء شعبي عام قبل الموافقة على العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، واعتبره غير دستوري وعادل، يحاول أن يتمسك جيدا بآخر ورقة يلعبها في اضعف موقع يتحصن فيه الاتراك.. الموضوع الأرمني.

حملة باريس الأخيرة من خلال دعوة الرئيس السوري بشار الأسد، خصم الأمس، للمشاركة في لقاء المتوسط ومحاولات إقناع مصر بلعب دور الريادة في المشروع عبر تسلم القاهرة لرئاسة القاعدة الجنوبية في هذا التكتل، هي محاولة مستميتة لإعادة تركيب الصورة المهزوزة لفرنسا مستهدفة اكثر من عصفور بحجر واحد وأملا في تسجيل موقف سياسي اقليمي مهم قد يكون تحقيق حلم كبير هو جمع رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت والرئيس السوري بشار الأسد حول طاولة واحدة في لقاء باريس في رد مباشر على الدبلوماسية التركية التي تعمل منذ أشهر بهذا الاتجاه .

أنقرة، رغم تليين مواقفها حيال الفكرة المتوسطية، تظل حذرة لأنها تعرف تماما ان باريس لن تتراجع عن محاولات العودة الى المنطقة التي خرجت منها قبل أكثر من نصف قرن لصالح أميركا وروسيا، وهي وراء الحصول على المزيد من الضمانات في أن المشروع الفرنسي هذا لن يعرقل حلمها الأوروبي ولن يتحول الى سد أو جدار ثقافي وأمني جديد لا يقل خطورة عن الجدران التي تبنيها اسرائيل في الاراضي المحتلة والاسوار الاميركية التي يتزايد عددها في بغداد، وهي نماذج لا تحتاج المنطقة الى المزيد منها في هذه الآونة. تركيا تعارض أن يكون المشروع محاولة جديدة لإلحاق جنوب المتوسط بشماله تجاريا واقتصاديا ومائيا في وجه الزحف الاميركي ـ الصيني وخطة لمواجهة الهجرة السرية التي تنطلق من الجنوب نحو الشمال عبر استبدال اليد العاملة التركية والعربية والاسلامية بشعوب أوروبا الشرقية التي التحقت بالمجموعة الأوروبية بعد السقوط السوفياتي، ما سيشعل أزمات اجتماعية واقتصادية اقليمية بالغة الخطورة.

أنقرة تقود باسم الجنوب عملية الحصول على ضمانات وتفسيرات شمالية كافية تطمئن حول ان هذا النوع من التعاون بين دول غير متكافئة لها خياراتها وتطلعاتها المختلفة لن يفرض على الجنوب الذي دفع الثمن أكثر من مرة. لا أحد يرفض التعاون وسياسة مد اليد لكن المرفوض هو أن يحولنا البعض الى ورقة ضغط للرد على مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي عبر مغامرة تقودها فرنسا من هذا النوع. أنقرة متمسكة برأيها القديم في ان محاولات فرض اسرائيل كركن أساسي في المشروع ينبغي أن تسبقها إعادة الأرض والسلم الى الشعب الفلسطيني ووضع حد نهائي لمعاناته. أما مشاريع التطبيع التي يدفع ثمنها شعب محاصر مهدد مجوع في مدن الاحتلال فهي لن تجد من يدعمها ويرضى بها تحت هذا النوع من شعارات فتح أبواب الحوار والاتصال .

لن يكفي أحدا أن يطلق اسم الفيلسوف الكبير ابن سينا على خطة التحرك الأوروبي الجديد في المتوسط، فالمطلوب قبل كل شيء الصراحة والوضوح في قمة باريس حول ما نريده ونسعى إليه من خلال إطلاق ودعم مثل هذه المشاريع بين دول غنية وأخرى فقيرة بين دول متقدمة وأخرى متخلفة، دول تحاول نفض غبار وإزالة آثار اتهامات التشدد والتطرف والارهاب، وأخرى تتمسك بتحميل مسؤولية ما وصلت اليه شؤونها الداخلية من تأزم وتدهور الى سواحل المتوسط الجنوبية.

* كاتب وأكاديمي تركي