دولة «الأقلية الحاكمة»

TT

حين يصبح «تحصيل الحاصل» في العمل السياسي في أي بلد كان ـ كانتخاب رئيس للدولة أو تشكيل حكومة (متفق سلفا على نسب التمثيل فيها) ـ انجازا يتطلب تدخلا خارجيا لإتمامه فإن أقل ما يقال في هذا البلد أنه أصبح «معطلا»، أو بالتعبير الانجليزي الاكثر دقة: .Dysfunctional

وحين يكون هذا البلد لبنان، القابع على خطي تماس متقاطعين ومتضاربين، أحدهما إقليمي وثانيهما محلي، يصبح التعبير الانسب لوصف حالته: «مشلولا» لا «معطلا». وحين يكون هذا الشلل مفروضا على لبنان في مطلع عهد رئاسي «توافقي» يصح التساؤل عن جدوى «التوافقية» في اجتراع الصيغة المناسبة لحكم لبنان.

أوليست مفارقة سياسية جديرة بالدراسة أن يكون لبنان البلد «الديمقراطي» الوحيد في العالم الذي تصح الاشارة فيه إلى «الأقلية الحاكمة» بداعي «التوافقية السياسية»، وبالتالي الدولة الديمقراطية الوحيدة التي تتحكم فيها الاقلية «الحكومية» بقرار الاكثرية البرلمانية؟

منذ دخلت «التوافقية» على القاموس السياسي المتداول في لبنان وممارستها توحي بأنها علة جديدة تضاف الى علل نظامه البرلماني: لا أحد يعرف أين تنتهي حدودها ولا أين تبدأ اللعبة الديمقراطية. ولا يحتاج مراقب الشأن اللبناني الى كبير عناء ليكتشف ان «التوافقية السياسية» تحولت الى مدخل («وطني» كما يقال) لإدامة شلل لبنان... وربما بداية مدروسة لتفشيل نظامه البرلماني الهش اصلا.

ما يسمى بنظام «الديمقراطية التوافقية» في لبنان بحاجة ماسة الى إعادة تعريف بعد أن باتت «توافقيته» تتحكم بـ«ديمقراطيته» إلى حد إلغائها من الوجود، الامر الذي تعكسه حسابات «المحاصصة» الطاغية على مقاربة السياسيين اللبنانيين للتشكيلة الحكومية. واللافت في هذه المحاصصة انها لم تعد تقتصر على نسب التمثيل ـ التي حددها اتفاق الدوحة ـ ولا على مذهبية متولي الحقيبة الوزارية بل على تصنيف الوزارات أيضا بين «سيادية» و«خدماتية» أي مهمة أو ثانوية.

ألا يصح التساؤل، بعد أكثر من شهر من المحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة فضفاضة (30 وزيرا) لحكم 10 آلاف كيلومتر مربع فقط، عما إذا كان اتفاق الدوحة أدخل لبنان في عملية تجاوز للعبة البرلمانية ـ ولا نقول تجاهل ـ باسم معادلة مبهمة سميت «بالتوافقية السياسية».

في أي دولة برلمانية غير لبنان يعتبر إقرار «حق» الاقلية بتقاسم الحكم مع الاكثرية المنتخبة إلغاء عمليا لمفهوم المعارضة في النظام التمثيلي. أما أن يشمل هذا التقاسم منح المعارضة «الثلث المعطل» في الحكومة ـ أي حق «الفيتو» على أي قرار سياسي قد تتخذه ـ فهذا يعني إلغاء دور الاكثرية والأقلية في النظام البرلماني اللبناني واختزال دور البرلمان بمجلس الوزراء.. «التوافقي».

واللافت حاليا ان هذه «الحالة التوافقية» بدأت تنسحب على الواقع الامني ايضا بحيث تحولت المؤسسة العسكرية الى «جيش توافقي» مهتمه الاساسية «الفصل» بين المتحاربين وإقناع الطرفين المتحاربين، «توافقيا»، بالتخلي عن لغة السلاح.

باختصار، ما لم تفصم هذه العلاقة الندية بين «التوافقية السياسية» والديمقراطية البرلمانية سيبقى لبنان مختبرا «للتشاطر» السياسي على التوافقية والديمقراطية معا. وما نشهده حاليا من مناورات للاستيلاء على الحصة الأكبر والأدسم من حقائب الحكومة «التوافقية» يوحي بان النظام البرلماني اللبناني في طريقه الى اللحاق بنظام «جمهورية ويمار» الالمانية في تهيئة المناخات السياسية والنفسية لفشل اللعبة البرلمانية والتمهيد لاستيلاء حزب فاشي على الحكم ـ أو شمولي في الحالة اللبنانية.

على هذه الخلفية الدقيقة يبرز البعد الواقعي لملاحظة الرئيس ميشال سليمان ـ في سياق اشارته قبل ايام معدودة الى ان الشعب اللبناني «لم يعد بإمكانه أن ينتظر مشكلة تأليف الحكومة ـ الى أن «رئيس الجمهورية يستمد قوته من الشعب الذي هو مصدر السلطة» وأهمية تأكيده بان الشعب اللبناني (لا اتفاق الدوحة) «هو مصدر السلطة».

حبذا لو كانت ملاحظة الرئيس سليمان تمهيدا لبدء انتقاله من مرحلة الحكَم «التوافقي» الى مرحلة الحاكم الفعلي لبلد بات في أمس الحاجة الى يد قوية تلملم فيدراليات الامر الواقع على أرضه. وغير خاف ان الرئيس سليمان وحده القادر، باسم التفويض الشعبي والإقليمي والدولي الذي يحظى به، على معالجة ازمة لبنان التي تتجاوز بكثير أزمة تشكيل حكومة، والتفرغ بالتالي إلى معالجة أزمتي لبنان الملحّتين: الضائقة الاقتصادية المستفحلة والحالة الامنية المتدهورة.