الانقلاب الشرعي لن ينجح في تركيا

TT

خلال الأسابيع القليلة المقبلة، سوف تنظر المحكمة العليا في تركيا في ما يمكن أن يكون أشد المطالبات إثارة خلال السنوات الأخيرة. والشخصية التي قدمت هذه المطالبة هي المدعي العام عبد الرحمن يالشينكيا، وهي مطالبة بسيطة: أن يتم حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم وأن يحظر العمل السياسي على 70 من قادته بمن فيهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، لمدة 10 سنوات.

ولنترجم ذلك إلى كلمات أكثر وضوحا: إن يالشينكيا يرغب في أن يستغل المحكمة العليا للقيام بانقلاب سياسي. وهو يزعم أن حزب العدالة والتنمية يحاول تخريب الدستور العلماني والجمهوري للبلاد من خلال فرض النظام الإسلامي ببطء. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اتهام الحزب السياسي التركي بتبني أجندة إسلامية خفية. تم توجيه ذلك الاتهام من قبل للحزب الديمقراطي الذي كان يتزعمه رئيس الوزراء عدنان مندريس في حقبة التسعينات من القرن الماضي. وقد تمت إقالة مندريس من السلطة وإعدامه بعد محاكمة.

وفي عام 1981، جاء الدور على حزب العدالة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء سليمان ديميريل ليتم توجيه الاتهام إليه بإخفاء أجندة سرية، ولهذا السبب تم حل هذا الحزب.

ثم جاء حظر حزبي الرفاه والفضيلة اللذين قادهما رئيس الوزراء نجم الدين أربكان خلال حقبة التسعينات. ولكن لم يتم الحكم على ديميريل وأربكان بالإعدام، وقد اعتبر ذلك مؤشرا على نضج الحياة السياسية في تركيا خلال هذه الفترة، عنها خلال الستينات. ولكن كان على كلا الرجلين قضاء أكثر من عقد من الزمان في تلك الحيرة السياسية.

وخلال هذه الأحداث جميعا، كان الجيش ـ أي القيادة العسكرية العليا ـ يتدخل ليفرض تغيير النظام.

واليوم، فإن فكرة القيام بانقلاب عسكري آخر غير مقبولة على الإطلاق لدى أغلبية الشعب التركي، لا سيما أولئك الذين يلتزمون بالمبادئ العلمانية للدستور. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أنه يمكن أو يجب السماح بانقلاب عسكري شرعي.

إن ما يفعله المدعي العام هو نوع من «محاكمة النوايا». إنه يتهم أردوغان وغيره من قادة حزب العدالة والتنمية بـ«الرغبة» في فعل أشياء ربما تضر بالدستور. وتعد «محاكمة النوايا» خصوصية للراديكاليين الإسلاميين المعروفين باسم التكفيريين، فهم من يتهمون منتقديهم ومناوئيهم السياسيين بأسرار الإلحاد. ولو كان يالشينكيا ديمقراطيا بحق، كما يدعي، ما كان له أن يقوم بنفس الأساليب التي يستخدمها التكفيريون الإسلاميون.

ويثير ذلك الخلاف القضائي سؤالين أساسيين:

السؤال الأول: من الذي يمكن أن نطلق عليه كلمة إسلامي؟

لا يمكن لأحد أن يزعم أن كل من يعتنق الإسلام هو إسلامي في المجال السياسي، ففي الواقع نجد أن معظم المسلمين أذكياء بالدرجة الكافية التي تمكنهم من الفصل بين الدين، كأمر يخص المعتقدات الشخصية للفرد، والسياسة، كنهج ينظم الحياة العامة. وفي إطار ذلك، فإن كل من يشاركون في حكومة أي دولة بها أغلبية مسلمة مسلمون، وقد يكون البعض ورعين، وقد يكون هناك آخرون يحاولون استخدام ذلك الورع كوسيلة لكسب شعبية، وحتى بعض السياسيين الأميركيين، ومن أبرزهم الرئيس جورج بوش، يسوقون لعقيدتهم المسيحية. ولكن ذلك لا يعني أن كل من لديهم معتقدات دينية هم أصوليون إسلاميون أو مسيحيون.

وعلى أية حال، ففي أي دولة ديمقراطية يجب أن يتمتع المواطنون بحرية نشر أفكارهم، بما فيها المعتقدات الدينية، فكون المرء مسلما ورعا يريد أن يشارك الآخرين معتقداته، لا يعني أنه يرتكب جرما بأي حال من الأحوال، ولا سيما في بلد مثل تركيا التي يشكل المسلمون فيها 98 في المائة.

ويصبح استخدام الدين لأغراض سياسية جريمة عندما يكون هناك تعدٍ على حريات الآخرين، والمشكلة حينئذ لا تكون في الدين ولكن في استخدامه كوسيلة للترويع والإرهاب، فإذا أجبرت الناس على أن يتصرفوا ويلبسوا ويتحركوا طبقا لقواعد دينية وفق تفسيرك أنت، فإنك بذلك ترتكب جرما لأنك أخللت بحقوق الآخرين. ولكن، إذا طبقت تلك الأمور على نفسك، فأنت تمارس حقوقك الشخصية، حتى لو كنت تريد بتصرفاتك تلك أن يقلدك الآخرون.

ويجب أن يستخدم تعريف «إسلامي» فقط في حالة الأحزاب التي تدعو صراحة إلى فرض الشريعة على أساس أنها القانون الوحيد الذي يجب أن يطبق، والتي تقول إن الملحدين لا يمكن لهم أن يتولوا المناصب العامة. ولم يقل حزب العدالة والتنمية بذلك. والواقع نجد أن قيادة الحزب ينأون عن كل ما له طابع «إسلامي». وبالنسبة للشريعة، فقد أعلنوها صراحة أنهم لا ينظرون إليها على أنها تابع للنظام القضائي التركي.

وتتعلق القضية الثانية التي يثيرها النزاع القضائي الحالي بتعريف العلمانية. فالعلمانية ليست مرادفا للإلحاد. فالإلحاد يرى بتعبئة قوى الدولة من أجل تحطيم كل أشكال الدين، ما عدا الآيديولوجية الرسمية. ولكن، طبقا للعلمانية فإن الدولة تقف موقفا محايدا تجاه أمور الدين، فهي لا تروج لدين معين، ولا تستخدم قواها من أجل تدمير أي دين، وعندما يكون ثمة خلاف بين الأديان، فإن الدولة العلمانية تتدخل كي تمنع القوي من أن يأتي على الضعيف. لا يجب أن يكون للدولة العلمانية دين حتى يتسنى للمواطنين الاعتقاد بما يشاءون.

بيد أن يالشينكيا يفسر العلمانية كما لو كانت تعني الإلحاد، فهو يرى أنه يجب على الدولة أن تتحرك ضد أي محاولة للترويج للحريات الدينية للمواطنين.

وبغض النظر عن موقف كل منا تجاه حزب العدالة والتنمية، فثمة شيء واضح: لقد تعلم هذا الحزب من التجارب السابقة ويعرف أنه لا مستقبل لأي أجندة إسلامية خفية في تركيا. وفي الانتخابات الماضية فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 46 في المائة من الأصوات، وذلك يعني أن 54 في المائة، أو أغلبية الأتراك، لا يثقون به ثقة كاملة. ولذا، أشك في أن يتصرف أردوغان، وهو أحد أذكى القادة السياسيين الذين قابلتهم في الأعوام الأخيرة، بحمق وأن يحلم بتكوين دولة إسلامية في تركيا الحديثة. ولا يجب على المحكمة العليا أن تذكر أردوغان بحدود سلطاته، ولكن عليها أن تتركه كي يقوم هو بذلك.