رزمة تقويم الإعوجاج النجادي وتبرئة التملُّص البشَّاري

TT

في الوقت الذي تتزايد نسبة التصعيد من جانب الادارة الأميركية والحكومة البريطانية والرئاسة الفرنسية ومعها الدول الحليفة الكبرى نسبياً مثل ايطاليا واستراليا وكندا وألمانيا واليابان في الموضوع النووي الايراني وتقترب لحظة فرض المزيد من العقوبات على ايران استباقاً لضربة او ربما تزامناً مع ضربة في حال لم توافق ايران النجادية على رزمة الحوافز التي عرضتها مجموعة5+1 وهي اميركا وبريطانيا وفرنسا والمانيا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي... في هذا الوقت لا يجد الرئيس محمود أحمدي نجاد أمامه سوى المزيد من التشدد في الموضوع إياه، أي القدرة النووية، وذلك لأنها ورقته الوحيدة التي اذا لم تثمر معه لن يكون معصوماً وسيصبح مغضوباً من الشعب الايراني لأنه ليس فقط وضع ايران في نقطة عدم اطمئنان الجيران الى نياتها، وإنما أضاع ثروة هائلة على مشروع يعرف سلفاً انه بالنسبة الى المجتمع الدولي محكوم بضوابط.. أي بما معناه لن يترك هذا المجتمع ايران تنجز الخطوة تلو الأخرى على طريق امتلاك النووي السلمي بدون رقابة وذلك لأن دول هذا المجتمع وبالذات المالكة للسلاح النووي تعرف تمام المعرفة ان النووي السلمي يصبح سلاحاً نووياً بالقليل من الجهد والكثير من الإنفاق عليه. وبالنسبة الى ايران فإن الحكم الحالي مستعد ليس فقط للقليل من الجهد وإنما للكثير الكثير، كما أن خيرات النفط وفيرة وفي الاستطاعة الإنفاق بسخاء على المشروع النووي، مع ملاحظة ان الارتفاع المذهل في أسعار النفط يخفف عن الحكم النجادي عبء الإنفاق. وزيادة في التوضيح نقول إنه لو أن الإنفاق استمر على الوتيرة نفسها ولم يرتفع سعر برميل النفط ويصل الى حد المائة وثلاثين دولاراً لكانت ايران التي تعيش في الأصل ازمة اقتصادية ستشهد انتفاضة ضد التوجه النجادي يصعب على الرجل تطويق تداعياته برؤيته الحماسية ـ الإيمانية التي طالما عبّر عنها من خلال ايحاءات قال انها تصله من الهالة الدينية للمهدي المنتَظَر.

على رغم ذلك يأتي التملص التدرُّجي البشَّاري من الحليف الايراني يشكِّل صدمة قد يستفيد منها خصوم التوجه النجادي، خصوصاً ان الرئيس بشَّار الأسد ذهب بعيداً وسيذهب على الأرجح عميقاً ثم أبعد وأعمق في موضوع التفاوض مع اسرائيل وتوظيف ما بدأه في هذا الشأن في تنشيط قنوات الاتصال مع دول العالم بما من شأنه فك طوق العزلة على الحكم السوري. ومن المؤكد عندما يشارك الرئيس السوري في القمة المتوسطية في باريس يوم 13 يوليو (تموز) المقبل ويقول وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير إن بشَّار الأسد سيكون الى الطاولة نفسها مع الوفد الإسرائيلي وأن الجولة الأخيرة من التفاوض غير المباشر بين الوفدين السوري والإسرائيلي في تركيا شهدت اتفاقاً على الارتقاء من البحث في الأمور التقنية الى البحث في المضامين وستُستأنف على مرحلتين في يوليو المقبل، ولا يكون رد الفعل الايراني بالنارية المعروفة عن الرئيس نجاد الذي ينادي باستمرار بزوال اسرائيل، فهذا دليل على الصدمة التي نشير اليها. وفي حال اغتنمت فرنسا الساركوزية مناسبة استضافة الرئيس بشَّار وجمعت بينه وبين رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود أولمرت أو رئيس الدولة شيمعون بيريز أو وزيرة الخارجية تسيبي ليفني كون احدهم سيترأس وفد اسرائيل الى القمة، فإن الصدمة الايرانية ستكون أشد وطأة ولن يخفف من شدتها قول سفير ايران لدى سورية أحمد موسوي قبل أيام (الثلاثاء 17-6-2008) «إن العلاقات السورية ـ الايرانية جيدة جداً ومَنْ يحاول تعكير هذه العلاقات فشل في الماضي وسيفشل في المستقبل، وهناك نصف مليون سائح ايراني يزورون سورية سنوياً وينفق كل واحد منهم بمعدل متوسط ما بين 1500 دولار الى 2500 دولار وهو أمر ايجابي كأحد مؤشرات التعاون الايجابية بين البلدين، كما ان وفداً من رجال الاعمال السوريين سيزور طهران خلال الأيام المقبلة». وتلك في أي حال حيثية تبقى أقل بكثير مما ستجنيه سورية من نجاح التفاوض مع اسرائيل، وصولاً الى اتفاق يعيد الجولان المحتل بموجب تسوية شبيهة بتلك التي حصلت عليها مصر السادات، مع ملاحظة ان استعادة سيناء تمت في ضوء نصر عسكري نسبي بينما استعادة الجولان في حال حدوثها ستكون في ضوء تسوية تسالُمية تغْني عن المواجهة العسكرية وتحقق للنظام مكاسب شبيهة بتلك التي تجنيها مصر مبارك.

في ضوء ذلك وبعد العرض الدولي السخي لإيران الذي ينعشها اقتصادياً ويحقق لها النووي السلمي تحت المراقبة ويمنحها دوراً اقليمياً لن يرتاح له بطبيعة الحال الجيران الخليجيون، ما الذي يمكن تصوُّر حدوثه في ايران؟

هل ينسحب نجاد بهدوء معتبراً ان العرض الدولي هو لمنفعة ايران الدولة والشعب لكنه ضد رؤيته ومشروعاته رافضاً ان يسجل على نفسه وهو الداعي الى ازالة اسرائيل والمراهن على ورقة التحالف مع الحكم السوري، التراجع والوقوف راضياً بالعرض وساكتاً أمام التحول النوعي في الحكم السوري من ممانع الى متفاوض مع اسرائيل قابل بوجودها متعايش مع جوارها متخلياً عن مفاصل أساسية تعلّق ايران عليها الآمال الكبرى وأهمها المفصل المتصل بـ«حزب الله» في لبنان و«حركة حماس» في فلسطين والمفصل الآخر المتصل بتغاضي سورية عن الهوى الايراني بالعراق؟

أم هل يدفع بالأمور الى حافة الهاوية وفي اعتقاده انه من خلال قلب الطاولة على ما فوقها من خرائط ومخططات واستراتيجيات يمكن ان يصبح رجل ايران القوي من خارج مؤسسة علماء الدين؟

في نهاية الأمر هنالك رجال دولة في ايران ينظرون الى الامور بتعقل ويملكون القدرة على استقراء ما في الغيب السياسي. ومن هنا فإن تفكير السيد محمد خاتمي بمعاودة ترشيح نفسه رئيساً للبلاد قد يكون الحل للخروج من المأزق وتفادي ايران وضع نفسها في عنق الزجاجة، كما أنه الرئيس الذي يرتضي، ومن دون ان يكون كمن يتجرَّع السم تلك الحيثية الخمينية الشهيرة، بالنسبة الى وقف القبول بوقف اطلاق النار مع عراق صدَّام حسين، العرض الدولي السخي ما دام يشكِّل بداية لتقويم الإعوجاج وإراحة البال البشَّاري من تداعيات التملص المباغت، وما دام ينقذ ايران من ويلات هي في غنى عنها. واذا كان خاتمي لن يرشح نفسه فهنالك البديل الذي هو رئيس مجلس الشورى (البرلمان) علي لاريجاني الشخص الواقعي الذي يزن الأمور بدقة كما صُيَّاغ الذهب وبصبر كما نُسّاج السجاد وبتعقل وضمير كما رجال الدولة الذين يرون أن الوطن يبقى أهم من الشخص.