ياباني!

TT

أصلح معلمنا للعلوم ـ هداه الله ـ في الصف الأول الثانوي من ربطة عنقه الأنيقة حينما راح يفلسف أسباب عدم الجودة في الصناعة اليابانية إلى الطبيعة القلقة للإنسان الياباني المهدد بالزلازل والبراكين، والذي تفرض عليه سيكولوجية القلق أن يفرغ مما في يده بسرعة حتى ولو كان ذلك على حساب الإتقان.. في ذلك الوقت كان مصطلح «صناعة يابانية» يعني في أذهان الكثيرين التقليد، ورداءة المنتج، وتواضعه، وبالتالي ظلت السلع اليابانية لسنوات رغم رخص أسعارها لا تمثل خيار الكثيرين مقارنة بالسلع التي تصنع في الغرب، حتى أن أبي كان يختصر النصيحة، وهو يكلفني بشراء أية سلعة بالقول:

ـ «احذر من أن تتورط في صناعة يابانية».

وواجهت السيارات اليابانية في أسواقنا العربية في بداية عهدها مثل هذه النظرة التمييزية، واعتبرها البعض مركبات خاصة بالفقراء، تلاحقها نظرات الاستهجان والازدراء والتفرقة، وارتبطت في أذهان الكثيرين بأنها صناديق الموت المتحركة، حتى أن أحدهم خط على سيارته الأجرة اليابانية آنذاك عبارة: «على الياباني الفقر رماني»، ولست أدري ماذا فعل الياباني بعد ذلك ليغير هذه النظرة تجاه منتجاته، فهو لم يكتف بتلبية احتياجات الشرائح الشعبية من المركبات وغيرها، بل راح ينافس حتى في صناعة السيارات الفارهة، مكبدا إمبراطوريات العربات الغربية خسائر جسيمة.. واليوم يكفي أن تقرأ «صنع في اليابان» لتطمئن لجودة السلعة ودقتها وإتقانها، حتى غدونا نفخر بأن جل الأجهزة الكهربائية الرئيسية في بيوتنا هي منتجات يابانية.. هكذا استطاع الياباني في صمت ومثابرة أن يمتص كل نظرات التشكيك والريبة التي رافقت بدايات تصنيعه، ومضى يطور منتجه عاما بعد آخر ليغزو منافسيه الاقتصاديين بمنتجاته في عقر دارهم، وليعترف له الجميع بالتفوق والريادة.

وقد انتقلت روح الياباني الطموحة صناعيا إلى جاره الصيني، المارد الذي يكتسح بأسعاره الرخيصة اليوم كل شيء، ففي الصين يمكن أن تصنع كل شيء، وأي شيء بربع قيمة تكلفته في غيرها، حتى غدت الصين الفزاعة التي تخشى منافستها مختلف القوى الاقتصادية في العالم، كما نال الكوريون أيضا نصيبهم من الروح اليابانية، ففي ذلك البلد ـ الذي يأكل كل ما يسبح في البحر باستثناء الغواصات، وكل ما يطير في الهواء ما عدا الطائرات، وكل ما يقف على أربع من غير الطاولات ـ زرت مصانع سيارات، وثلاجات، ومكيفات هواء، وحواسيب، وتلفزيونات، وغيرها، وكأن أصحاب العيون الصغيرة الضيقة قد قرروا أن يأخذوا نصيبهم من اقتصاديات الدنيا.. وبقينا نحن العرب أصحاب العيون الواسعة الكحيلة على مقاعد المستهلكين سادة من يتشدق بالحديث عن الأصلي والتقليد، وأخبار الصاعدين والهابطين..

ويا أمان الخائفين.

[email protected]