خيبة أمل مزدوجة في قمة شرم الشيخ

TT

فشل قمة شرم الشيخ في دعم شعب زيمبابوي ثبتت الصورة النمطية عن القارة في الاذهان: احتقار زعماء معظمهم غير منتخب للديموقراطية؛ وتفشي الفساد ونهب الديكتاتوريات للثروات القومية وتحويلها مليارات الدعم الاوروبي والأمريكي والقروض البنوك الى حساباتهم في سويسرا؛ وعجز الافارقة عن ممارساة الديموقراطية.

شب جيلنا من الصحفيين البريطانيين نتلقى الحذر تغطية افريقيا من عقد الذنب تجاه المستعمرات السابقة.

حديثي مع سائق تاكسي عجوز في نيروبي «شكواي ضد اي مسؤول ستؤدي الى اضطهادي وأسرتي اذا لم ادفع رشوة.. اين المفتش الانجليزي الذي كان ينصفنا ضد الظلم؟».

لم أجرؤ على تخليص عجوز افريقي لغياب العدالة بعد الاستقلال في صحيفتي البريطانية خشية انهيال اليسار بقاموسه «التقدمي» على راسي باتهامات الرجعية، وخدمة الامبريالية الجديدة (العولمة) والعنصرية والكفر بديانة البيئة ورفض ممارسة شعائر العقيدة الأنثوية (اي الخضوع لسيطرة المرأة المتحررة على الرجال) ثم فرض عقوبة الأشغال العقلية الشاقة علي بقراءة «الغارديان» 24 ساعة يوميا لعام كامل.

تراجعت مشاكل دارفور والصومال، والمجاعات والجفاف وتعطل مشاريع النمو في شرم الشيخ امام مشكلة فجرها ديكتاتور زيمبابوي روبرت موغابي الانصياع لتصويت الشعب للمعارضة بزعامة مورغان تشانغراي.

وببلطجية لا يضارعها الا سادية «جهاز حنين» البعثجي بزعامة صدام حسين، اطلق موغابي عصاباته بالبلط و«الشوم» واحيانا الرصاص لضرب الناس كي لا يصوتوا للمعارضة في انتخابات جديدة لم يعترف بها أحد .

وهدد علنا «بقطع أي يد» تضع علامة امام اسم خصمه تشانغراي، واتهمه بالعمالة «للاستعمار» البريطاني (رغم ان لندن هي التي ضمنت لحزبه السلطة في اتفاقية لانكاستر هاوس عام 1980 ضد حكومة ايان سميث كما ان اكبر معونة سنويا لزيمبابوي تأتي من بريطانيا).

تطلعت اوروبا وامريكا لقمة شرم الشيخ للخروج بحل افريقي صرف، ليكتشف شعب زيمبابوي انه كالمستجير من الامطار بظل شرفة تغسلها صاحبتها بعشرين دلوا من الماء.

غالبية الحضور دخلوا نادي القمة الافريقية ببطاقة عضوية اصدرتها الجهة نفسها التي اصدرت بطاقة موغابي، والفارق درجة اللون الاحمر حسب كمية الدم التي سالت او ظلال الاصفر والرمادي حسب درجة التزوير. فالزعماء المنتخبون شرعيا بين الحضور يعدون على اصابع اليد.

وهل يجبر «اولاد الكار» زميلهم في الصنعة على الالتزام بقواعد اللعبة اذا كانوا يغشون على طريقة معلمي المهنة الكبار؟

وجه سياخانيسو ندلوفو وزير اعلام زيمبابوي (لكل ديكتاتور دكتور لتلميع الصورة اسمه وزير الإعلام) اول «شوطة» الى مرمى الزعماء الأفارقة الزجاجي بترديد اسماء كبارهم والتعليق بضحكة ساخرة عما اذا كان في جعبتهم ما يقدمونه عن الديموقراطية ونزاهة الانتخابات.

الحل الوسط في شرم الشيخ مثل دواء، إما يقتل المريض او يحوله الى مدمن عليه، اقتراح مشاركة الخاسر موغابي للفائز الحقيقي في الانتخابات شانغراي في «حكومة وحدة وطنية» ائتلافية.

بلية الاقتراح مضحكة في كارثيتها، لانها تضع اسسا سابقة خطيرة.

هذا يعني ان اي ديكتاتورية، لوت المعونة الامريكية ذراعها نحو انتخابات لم تعجبها نتائجها ستسلط قوات امنها على الناخبين.

او حزب ديني طائفي ارهابي التاريخ، يسعى لكسب الاحترام بدخول الانتخابات سيضمن نتائجها مقدما باطلاق «مجاهديه» من بلطجية الحزب لضرب وارهاب الناس نحو صندوق الاقتراع.

ولوقف الصراع الدموي الناجم عن التصويت، تتدخل المنظمة الاقليمية او الجيران بسابقة الاتحاد الافريقي بوصفة حكومة الوحدة الوطنية.

اي يكسب الديكتاتور بالهراوة ماركة «صنع في شرم الشيخ» ما خسره بوضوح في صندوق الاقتراع.

وحتى الحل الوسط لم يعجب موغابي، فصاح متحدثه الرسمي في وجه الصحفيين «فليشنق الغرب نفسه، واذا لم يعجبه موقفنا الصامد، فليشنق نفسه مرتين»؛ في صدى القول الشهير لزعيم افريقي آخر لم ينتخبه احد هو المرحوم الكولونيل جمال عبد الناصر. عندما ناشدت امريكا الاطراف التهدئة وضبط النفس في مايو 1967 عقب فرض الكولونيل ناصر الحصار البحري على ميناء اسرائيل الوحيد المطل على البحر الاحمر، وطرد قوات حفظ السلام الدولية من سيناء، قال للصحفيين «امريكا تروح تشرب من البحر.. وان لم يعجبها البحر الابيض، تشرب من البحر الاحمر»؛ والنتيجة ان الامة المصرية هي التي شربت مقلب سياسته الخرقاء.

امريكا والاتحاد الاوروبي لن يشنقا نفسيهما. وانما سيجبران موغابي على ان يشرب «من كيعانه»، فموقف اوروبا ممثلا في تصريح وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنر (فرنسا هي الرئيس الحالي لاوروبا) هو عدم الاعتراف باي رئيس لزيمبابوي سوى تشانغراي.

اما خيبة الامل الاخرى في شرم الشيخ فهي تهميش القاهرة بنفسها لدورها الجغرافي والتاريخي بعدم اعداد مبادرات قبل القمة، بشان زيمبابوي، وبشان التعاون الاقتصادي للقارة كبناء مشروع خط سكة حديد القاهرة كيب تاون الذي اعده سيسل روديس مؤسس روديسيا (زامبيا وزيمبابوي حاليا).

ويبدوا ان الجيل الجديد من موظفي الخارجية المصرية لا ينظر للخرائط ليكتشف ان مصر تقع في افريقا جغرافيا ويجب ان تشكل القاهرة مع بريتوريا محور الثقل السياسي والحضاري للقارة في مشروع سوق كدور فرنسا والمانيا في سحب قاطرة السوق الاوروبية.

فهل لم تتعلم القاهرة المعاصرة درس الاخطاء الباهظة الثمن للطموحات الايدولوجية للكولونيل ناصر التي اعمته عن رؤية افريقيا، عندما اهدر موارد وطاقات الامة المصرية ودماء ابنائها في مغامرات عسكرية وحروب لا ناقة لمصر فيها ولا جمل كلها في قارة آسيا؟

ففي اي درج ضاع مفتاحه يا ترى يقبع ارشيف سنوات من جهود ضخمة بذلها الدكتور بطرس بطرس غالي لحماية مصالح مصر في القارة، وفي مقدمتها النيل، ابو حضارة الاف السنين المصرية؟

وللاسف لم يصادفني، بين الجيل الحالي من ديبلوماسيي مصر العاملين، من يعي حكمة رجل الدولة الداهية السير ونستون تشرشل الذي نظر لحوض النيل كوحدة جغرسياسية متكاملة فرسم نقاط معاهدة النيل عام 1929 لحماية مصالح الحليفة مصر في دول الحوض التسع.

الرئيس الراحل انور السادات، كزعيم آخر حاول استعادة المصالح الضائعة في افريقيا، لكن لم يمهله الارهاب المستورد، الوقت الكافي، استند لمعاهدة 1929 في حديث معنا (المجموعة الصحفية البريطانية) قبل ثلاثين عاما بقوله ان حقبة خوض الجيش المصري حروب الاخرين انتهت، وانه سيحارب في حالة واحدة فقط «اذا هدد اي طرف قطرة من ماء النيل».

رحم الله تشرشل والسادات وأطال في عمر الدكتور بطرس غالي!