المعارضات العربية والانشقاقات العربية والإسلامية

TT

أعلنت وزارةُ الداخلية السعودية قبل أيام عن القبض على ما يزيد على الخمسمائة شاب معظمُهُمْ من السعوديين، كانوا ينوون ويخطّطون للقيام بعمليات تفجير وانتحاريات بالداخل. وفي الوقت نفسِه، أعلنت الأجهزةُ العراقية عن القبض على مجموعات من جيش المهدي، وأخرى من «القاعدة»، كانت قد ارتكبت أعمالاً عنيفة، أو هي بصدد الإعداد لذلك. وفي الجزائر هاجم تنظيم «الجبهة السلفية للدعوة والقتال» بعض مراكز الشرطة؛ لكنّ القتلى كانوا من المدنيين. وفي ليبيا تجري مفاوضاتٌ بين الحكومة أو السلطات (المفروض أنه ليس في الجماهيرية العظمى حكومةٌ ولا سلطات! وهكذا فالمرجَّح أن ابن العقيد القذافي هو الذي يُجري المفاوضات كالعادة) من جهة، والمسجونين من «الجبهة الليبية للدعوة والقتال»، من أجل المراجعة ـ كما فعل إخوانٌ لهم في مصر ـ، ونبذ العنف، وإلقاء السلاح، في مقابل إطلاق السراح. وفي لبنان، وبعد اجتياح حزب الله لبيروت، وانتشار الاضطراب إلى البقاع الأوسط والشمال، أقبل حزبُ الله على التخويف من التطرف الأُصولي والسلفية، وقال كما قال بعضُ زعماء المسيحيين إنهم سيكافحُونها ويَقْضُون عليها بالقوة! أمّا اجتياحُ بيروت، ونشر السلاح والاضطراب في أنحاء أخرى من لبنان، ومن جانب حزبٍ ديني، فلا يُعتبر تطرفاً ولا إرهاباً! وأخيراً هناك الأمر الغريبُ الذي يجري في غَزّة بالذات. فقد دخلت حماس أخيراً ـ وبوساطةٍ مصرية ـ في حالة تهدئةٍ مع إسرائيل. وفور حدوث ذلك ظهر التوتُّر بين قيادتها، وقيادات أخُرى فلسطينية (مثل الجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى..الخ) أرادت فجأةً متابعة الكفاح المسلَّح ضد العدوّ الصهيوني، بعد أن ظلّت لعامين وأكثر تحاولُ اللحاق بكفاحية حماس دونما نجاحٍ أو لفْتٍ للانتباه!

كلُّ الحركات التي ذكرناها هي حركاتٌ مسلَّحةٌ، وتقول عن نفسِها إنها من حركات التحرير أو حركات المعارضة. وهي محوطةٌ بالإعجاب من جانب جماعات الإسلام السياسي، ومن الجماعات والأحزاب القومية، وقطاع واسع من الجمهور. وإذا سألْنا عن أسباب الإعجاب واتّخاذها أو اتّخاذ بعضها نموذجاً يقال لنا أمران: العداء لأميركا وإسرائيل، وتحقيق إنجازات في مجال التحرير. ولأنّ العداءَ للولايات المتحدة بضاعةٌ مُزْجاة، ولا ينفردُ بها أهلُ القاعدة أو حماس أو حزبُ الله أو جيش المهدي، فلنناقش الأمر الثاني، وهو المفروض أنّ تلك الحركات قامت من أجله، أي تحرير فلسطين، أو تحرير أراضي العرب والمسلمين المحتلّة. أمّا جيشُ المهدي ـ والذي اعتبره السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير جيش مقاومة ـ فما تصدّى للجيش الأميركي بالعراق، ولا تسبَّب له بأية صعوبات. وإنما مارس مذابح طائفية، وعمليات قطْع طريق وسلْب ونهْب. والأعمال الخفيّةُ التي بدأها ضد الأميركيين بالعراق قبل عام، بدأها في الحقيقة الإيرانيون بعد أن انتهى شهر العسل أو المُهادنة مع الأميركيين، والذي استمرّ ما بين العامين 2001 و2006. أمّا حزبُ الله وحماس فقد قاتلا بالفعل ضدَّ إسرائيل، لكنهما جاءا أخيراً بعد عقودٍ من الكفاح المسلَّح من جانب فئاتٍ وتنظيماتٍ أُخرى. وجاءا ليكونا بديلاً عن كلّ الآخرين. وقد حالا في حالاتٍ كثيرةٍ بالقوة أو بالتكفير واللعن والاغتيال دون استمرار الآخرين في المقاومة. وعندما تحقّق شيء مما يمكن تسميتُه تحريراً كان هذان الطرفان بالذات قد تحولا إلى انشقاقٍ في قلب الشعبين الفلسطيني واللبناني. وأوضحُ الأدلّة على ذلك إقدام حماس على احتلال غزّة، التي سبق أن حصلت على 70% من الأصوات فيها في الانتخابات، أي أنّ المدينة التي أسهمت حماس في تحريرها، ووقفت غالبية ناخبيها معها اختياراً، وجدت حماس من الضروري أن تُعامِلَها كما كانت تُعامِلُها إسرائيل، وبحجةٍ ضعيفةٍ هي عداؤها لفتح ولجهاز الأمن الوقائي بغزّة الذي كان خصماً لها! أمّا حزبُ الله، والذي يحتفلُ كلَّ عامٍ بذكرى انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 تحت وَقْع ضَرَباته؛ فيعلمُ الجميعُ أنه كان هو والسوريون الأشدّ انزعاجاً من الانسحاب الإسرائيلي آنذاك، لأنّ الحزبَ أراد مبرِّراً لإبقاء سلاحه، ولأنّ السوريين أرادوا مبرراً لبقاء قواتهم بلبنان. ورغم اكتشاف الطرفين لمزارع شبعا المحتلّة؛ فإنّ حزب الله ما عاد مقاومةً وحسْب حتّى في خطابه العلني، بل صار يتحدث عن ضرورة الحصول على ضمانات لأمن المُقاومة بعد أن أحسَّ بزوال الإجماع اللبناني من حوله. وهكذا صار مقاومةً وأمْناً بعد العام 2000، ثم صار أمناً وأمناً بحتاً بعد حرب تموز عام 2006؛ إذ رغم الزيادة الكبيرة في تسليحه، ومدّ شبكاته على الأرض اللبنانية، وجد أنه من الضروري لتأمين الأمن لسلاحه، أن يجتاح بيروت بعد أن ارتهنها سياسياً وأمنياً لأكثر من عامٍ ونصفٍ بالاعتصامات، والقصف السياسي والخطابي، والاستنفار الطائفي والتسليح لعدّة أطراف. وهكذا يبدو حزبُ الله الآن، كما بدت حماس منذ فترة، باعتباره انشقاقاً في قلب الجماعة الشيعية، وانشقاقاً في المجتمع اللبناني، وانشقاقاً وتمرداً على الدولة والشرعية. أمّا القاعدة أو السلفية الجهادية فقد وفَّرت الأمر على نفسها وعلينا لكي لا تجهد في تشخيصها. فالقاعديُّون ما سألوا عن فلسطين، بل هاجموا الولايات المتحدة مباشرةً، ثم ارتدُّوا إلى الدواخل التي انشقُّوا عنها لمقاتلتها. وبديهيٌّ ما دامت حركات المقاومة والتحرير هذه بداياتها وهذه مصائرها، أي أن تحتلّ بالقوة الديار التي شاركتْ في تحريرها، أو تصبح عملياتها الانتحارية ضدّ المدنيين أو ضدّ المرافق الحيوية في البلدان التي انطلقتْ منها؛ هي هدفُها الرئيسي؛ فإنّ مشروع تحرير فلسطين أو غيرها إنْ كان قد وُجد من قبل فإنه لم يَعُدْ وارداً الآن. ذلك أنّ مشروعاً بهذه الأهمية، لا بد أن يكونَ مشروعَ الأُمّة، وطرائق حماس وحزب الله والقاعدة، والتشرذم العربي والإسلامي، وشراسة الهجمة الإمبريالية؛ كلُّ ذلك حال دون علوّ صوت الأمة والمشروع اليوم ـ كما انعزلت المقاومات وانشقّت بسبب العجز والحصار، والتبعيات الإقليمية، والأصول الفكرية الطليعية والنخبوية والمهدوية. والانشقاقات لا تستطيع حَمْل مشروع الأمة، فضلاً عن التفكير فيه. ويكون علينا الآن ـ وفي عددٍ من الدول العربية ـ أن نفكّر كيف نتصرف بعد أن زاد عددُ مُحاصرينا واحداً أو طرفاً: الإمبريالية الهاجمة، والأنظمة القائمة، وحركات المقاومة والتحرير المستولية الآن في عددٍ من البلدان، بعدة أسماء ومهمات، لم يعد عليها دليل غير السلاح.

وإذا كان الداءُ الظاهر والمستشري متمثّلاً في المقاومات وحركات التحرير الانشقاقية؛ فإنّ الداءَ الآخَرَ المتعلِّقَ بحركات المعارضة العربية، ليس أقلَّ ضرراً وإيهاماً. إذ لا أحد عنده وهمٌ حول إمكان سيطرة حماس أو حزب الله على السلطة في الدولة العربية الرئيسية. أمّا البدائلُ المطروحةُ خَلَفاً لأنظمة الحكم في الأنظمة العربية الثورية والتي تحولت إلى خرابات أو ديكتاتوريّات، فهي الأحزابُ السياسيةُ الوطنيةُ والقوميةُ والإسلامية أو ما يُعرف بالإسلام السياسي. لكنّ هذه المعارضات بالذات، حتّى أحزاب الأكثرية، تعتبر حماساً وحزبَ الله نماذجَ للتغيير الرائع الذي تسعى إليه! لكأنما لا هَمَّ للجماهير العربية الغَفورة إلاّ حمل السلاح، ثم حماية السلاح بالسلاح، ثمَّ اعتبار الآخرين، كلّ الآخرين ـ فيما عدا الذين يقدّسون خالد مشعل وحسن نصر الله ـ عملاءَ الداخل، الذين ينبغي تصفيتُهم ـ كما فعلتْ حماس بغزّة، أو إرعابهم بإمكان التصفية إن لم يستسلموا، كما فعل حزبُ الله ببيروت!

نحن نعرفُ، كما يعرفُ الحزبيُّون المحترفون، أنّ أحزابَ التغيير السلمي ـ أي التي بدون سلاح حتى الآن ـ ينبغي أن تمتلك برامج سياسية واقتصادية وتنموية، أو يا أخي ما دامت كلّها تريد أن تتحول إلى حركات تحرير، ومعها الشخصيات القومية والوطنية والإسلامية المعروفة؛ فلتُطْلِعْنا على برنامجها لتحرير فلسطين، انطلاقاً من مصر أو من المغرب أو من سورية. بدلاً من الاكتفاء ـ كما تفعلُ حتى الآن ـ بتحميس حماس وحزب الله ومقتدى الصدر وأحياناً ابن لادن، وشتم وتخوين خصومهم الداخليين!

نحن مبتَلَون ولا شكّ بحركات تحريرنا في زمن الانشقاق والفتنة. لكننا مبتَلَون أكثر بالحركات الحزبية المعارضة، وبالشخصيات المعارضة، والتي تريد الوصول إلى السلطة أيضاً بالسلاح؛ لكنْ تحت يافطة تحرير فلسطين!