دارفور جرحنا الغائر الدامي الذي يأبى أن يندمل

TT

دارفور!.. إنها مصدر الخزي والعار لكل السودانيين شيباً وشباباً نساءً ورجالاً حكومة ومعارضة فصور الدمار والخراب والموت والنازحين في تلكم المعسكرات البائسة المعدمة والتي تفتقر لأبسط ضروريات الحياة ـ تلك الصور ظلت ُتبث بواسطة الفضائيات وفي كل أرجاء المعمورة وفعلت فعلتها في تشويه صورة السودان والسودانيين.. وأصبحت دارفور باباً للتدخل الأجنبي ومدخلاً لانتقاص سيادة الدولة، حيث لم تجد بداً من القبول بوجود 26 الفا من قوات الهجين التي استبدلت قوات الاتحاد الافريقي وذلك رغم القسم المغلظ بعدم قبولها.

يقع إقليم دارفور في غرب السودان في مساحة تعادل مساحة فرنسا تقريباً (510 آلاف كيلومتر مربع) «تجاوره ثلاث دول هي ليبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد» وتسكنه قبائل افريقية أهمها الفور «والتي جاءت تسمية الإقليم منها» والزغاوة والمساليت والداجو والتنجور والتامه؛ وأهم القبائل العربية المحاميد والرزيقات والمعالية وبني حسين وبني هلبة والبقارة؛ ويبلغ تعداد سكان الإقليم نحو سبع ملايين نسمه وجميعهم مسلمون سنة وأهم مدن الإقليم الفاشر ونيالا وزالنجي والجنينة؛ ونجد ان اغلب الذين يستقرون بالمدن والقرى المحيطة بها هم من القبائل ذات الأصول الافريقية أما المنتمون للقبائل العربية فجلهم بدو رحل؛ وقد خضعت المنطقة للدولة المهدية في الفترة من 1884 وحتى 1898 تحت حكم الزبير ود رحمة وعند انتصار جيش كتشنر في معركة كرري الشهيرة 1898 وانتهاء الدولة المهدية ظل الاقليم مستقلاً تحت حكم السلطان علي دينار في الفترة من 1898 وحتى 1916.

ضرب الجفاف والتصحر الاقليم ولعدة سنوات متتالية مما أثر سلباً على حياة البدو الرحل ومعظمهم من القبائل العربية التي تعتمد في رعي حيواناتها على العشب والكلأ مما تنبت الارض التي تصحرت بفعل الجفاف لشح الامطار فنفقت معظم حيواناتهم والتي يعتمدون عليها وبشكل كبير في تسيير حياتهم ومعاشهم فاخذت هذه القبائل تهاجم المدن والقرى وتستولي على الاراضي «وتسمي الحواكير» والتي هي ملك لأفراد من القبائل الافريقية التي استقرت في تلك القرى والمدن وفي أعنف تلك الحوادث تم قتل عدد من افراد تلك القبائل ذات الاصول الافريقية وتدخل الحكماء سعياً للصلح لحقن دماء الفريقين كما هي العادة في ذلك الإقليم وغيره من اقاليم السودان المختلفة وتوصلت تلك المساعي الحميدة لضرورة دفع الدية لأهل القتلى قدرت وقتها بعدة مليارات وكان من المأمول ان تتولى الحكومة المركزية دفع ذلك المبلغ إذ يتعذر على تلك القبائل دفع مثل ذلك المبلغ ولكن الحكومة رفضت دفع تلك الدية مرتكبة خطاً فادحاً أدخل الإقليم كله والسودان في أتون حرب لعينة نالت من سمعة السودان وحصدت الكثير من الارواح البريئة ودمرت الاقليم تدميراً كاملاً.. وبعدها اشتعل التمرد اشتعالاً في معظم الاقليم إذ ان معظم النار من مستصغر الشرر.

فسياسات الحكومة الخاطئة في التعامل مع اندلاع التمرد أدت إلى تفاقم المشكلة إذ تعاملت الدولة مع التمرد وكأنه عصابات نهب مسلح ودفعت بأهل الولاء لإدارة الاقليم رغم عدم كفاءتهم وعدم خبرتهم ورغم جهلهم الكامل بأمور الإدارة ؛ وقد استخدم هؤلاء القوة المفرطة لإخماد التمرد وعندما فشلوا في ذلك ارتبكوا الخطأ الاستراتيجي بتسليح القبائل العربية لقمع متمردي القبائل الافريقية فتكاثرت العصابات التي اشتهرت وعلى نطاق العالم كله باسم «الجنجويد»، التي اختلف الناس حول اصل الكلمة، والمرجح انها تعني «جن يمتطي جواد»؛ فأصبحت عصابات «الجنجويد» تعيث في الارض الفساد فقتلت الرجال والنساء والأطفال وأحرقت القرى بأكملها واغتصبت النساء. ومن نافلة القول ان تسليح مثل هذه العصابات سهل ميسور ولكن نزع سلاحها يصعب إلى درجة الاستحالة لعدم استقرار تلك العصابات ولقدرتها على إخفاء السلاح والمراوغة وذلك لمساحة الإقليم الشاسعة وتدخل دول الجوار في مناصرة بعض الحركات وتزويدها بالسلاح والعتاد مما أدى لتفاقم المشكلة بصورة واسعة.

باءت كل المحاولات للحصول على تسوية مرضية لكل أطراف بالفشل بما في ذلك الاتفاقية التي وقعتها الحكومة مع مني اركو مناوي في أبوجا؛ بل لعل الحرب والمعاناة قد زادت وفشلت المحادثات التي انعقدت في مدينة سرت الليبية فكان لهذا الفشل واستمرار المعاناة وتغلغل التدخل الأجنبي في الشأن السوداني ممثلاً بقوات قوامها ما يقرب من الثلاثين الف جندي.

فلكل ما تقدم من اسباب فاني اتمنى ان تبذل مساع حميدة في الجمع بين الفرقاء في اقليم دافور المتناحر متمثلة في حكومة السودان والحركات المتمردة في محاولة صادقة ومخلصة لإيجاد الحلول التي ترضي جميع الاطراف وتضع حداً للمآسي وسفك الدماء التي يعاني منها ذلك الجزء العزيز من وطننا الحبيب.

* كاتب وأكاديمي سوداني