غياب المسيري: الرجل الذي حاصر الفكر الصهيوني بالكلمات

TT

غيب الموت عن سبعين عاما، وبعد صراع مرير مع مرض عضال، الأديب والمفكر والسياسي والمناضل المصري عبد الوهاب المسيري. شخصية مصرية في الصميم، ولادة وانتماء وفكرا، ولكنه بالإضافة إلى ذلك، عربي صميم يؤمن أن العروبة هي انتماء لحضارة، ومسلم صميم يؤمن أن الدين يفتح أفقا واسعا أمام الإنسان ينتزعه من المادية الغربية، والمادية الأميركية بشكل خاص، والتي تقترب في نهاياتها من الفاشية، حسب الصيغة العالمية التي نعيشها الآن.

ولد عبد الوهاب المسيري في مدينة دمنهور عام 1938، ودرس الأدب الإنجليزي في جامعة الإسكندرية، ونال الماجستير والدكتوراه من الجامعات الأميركية متخصصا بالأدب الرومانسي، ثم عاد إلى الإسكندرية ليمارس التدريس في جامعة عين شمس وفي جامعة الملك سعود في الرياض.

أثناء دراسته الثانوية والجامعية كان ماركسيا، عمل في الحزب الشيوعي قبل تشرذمه، وترجم كتاب ماوتسي تونغ عن (التناقض) وهو في التاسعة عشرة من عمره، وكان المفاجئ بعد ذلك أن يتخصص بالرومانسية في مرحلة إعداد الماجستير والدكتوراه، وبينما كانت نظريات «الواقعية» تسود العديد من الأوساط الأدبية العربية والعالمية، وبخاصة في فترة الخمسينات. ولكن هناك من يقدم تفسيرا لهذا التوجه ملفتا للنظر. يقول الدكتور فضل النقيب في مقالة مميزة له عن المسيري ومراحل تكونه الفكري (تشرين الأول/ أكتوبر 2007): إن الرومانسية والماركسية هما من نتاج القرن التاسع عشر. والرومانسية هي الريح التي حركت أفكار الغرب في ذلك القرن، والرومانسية هي الجذوة الكامنة في أعماق كل طامح للتغيير على صعيد الفكر أو على صعيد الممارسة.

ولكن المسيري هو في الوقت نفسه، وليد الحالة الفكرية التي سادت في مصر، قبل ولادته، وأثناء تكونه، وعند بدايات نضجه. فهو وليد الحالة التي تبلورت في أربع مدارس فكرية. المدرسة الأولى التي تبلورت على يدي محمد علي باشا وبعثته العلمية الأولى للطلاب المصريين إلى فرنسا، وكذلك على يد رفاعة رافع الطهطاوي الذي كان مشرفا على البعثة وموجها لها، وهي المدرسة التي دعت إلى التحديث العلمي، وواصل العمل بعدها محمد عبده وآخرون. المدرسة الثانية تبلورت على يد طه حسين الذي كان أول مصري يحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، والذي صدر كتابه عن «مستقبل الثقافة في مصر» عام ولادة عبد الوهاب المسيري. كانت هذه المدرسة تدعو إلى اقتباس النموذج الأوروبي حضاريا وفكريا، ثم طورها سلامه موسى إلى اقتباسها اشتراكيا. المدرسة الثالثة ظهرت كرد فعل وكتيار مضاد، ينتقد الابتعاد عن حقيقة الدين الإسلامي، وتمثلت بجهود محمد رشيد رضا عبر جريدة (المنار). المدرسة الرابعة كانت مدرسة الفريق الوسط والتي كان أحمد أمين (1886 ـ 1954) من أبرز رموزها. وقد شكلت هذه المدارس الأربع الخلفية الفكرية للحركة الوطنية المصرية، التي نشأ المسيري في كنفها، وانحاز يافعا إلى أحد أطرافها. ولكن تبلوره النظري المباشر كان بعد ثورة 1952 التي شهدت ظهور جيل فكري جديد هو الجيل الذي تعايش معه المسيري، وذهب إلى الدراسة في أميركا وهو يحمل معه إرثه.

كان المسيري ماركسيا في ذلك الحين، ولكنه كان يحمل في الوقت نفسه عقلا منفتحا، عقلا نقديا، وهو العقل الذي قاده إلى تجاوز الفكر الماركسي نحو تيار وسط، تيار منفتح على الحضارة الغربية، وملتزم في الوقت نفسه بالانتماء العربي والإسلامي. وهو ألف كتابا عن مسيرته الفكرية، عرض فيه التحولات التي مر بها، وعرض فيه أيضا ما هو أهم، أي الأسس الفكرية الجديدة التي كان ينتقل بموجبها من مرحلة إلى مرحلة، وهي أسس فكرية تقطع مع مسلمات الفكر الغربي (القوانين المادية للطبيعة والإنسان)، وتؤمن بالمقابل بفلسفة القيم التي تضع الإنسان فوق الطبيعة، كفاعل في التجاوز والتغيير. أما الموضوع الرومانسي فإنه يصفه في مسيرته هذه بأنه حبه الأول.

ولكن هذا المثقف الماركسي، الدارس للرومانسية، وبحكم دراسته المعمقة لتناقضات الفكر المادي ـ الغربي، يبتعد عن ذلك كله، وينشغل فورا، وبعد قليل من نيله شهادة الدكتوراه، بالتفرغ لدراسة الفكر الصهيوني، ليصبح في النهاية علما من أعلامه. ففي العام 1972 كان المسيري أول من تحدث عن نظرية (نهاية التاريخ)، وفعل ذلك قبل الأميركي فرانسيس فوكوياما بما يقرب من ثلاثين عاما، وجسد ذلك في كتابه (نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني). ولكن بينما اعتبر فوكوياما (نهاية التاريخ) انتصارا للحضارة الأميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، عالج المسيري نظرية نهاية التاريخ من منظور آخر يذهب إلى «أن الفلسفات الفاشية تحاول دائما أن تضع نهاية للتاريخ (الزمان والمكان) لتبدأ من نقطة الصفر، وهذا ما يصنعه الصهاينة بالنسبة لكل من الفلسطينيين ويهود العالم، إذ تتحول فلسطين العربية إلى أرض بلا شعب، ويتحول اليهود إلى شعب بلا أرض، وهو يقدم من خلال هذه المعالجة إنجازا فلسفيا، إذ يرجع أساس هذه النظرية إلى المدرسة (الحلولية)، أي (حلول الإله في التاريخ). والحلولية هنا كما يعرفها المسيري هي إلغاء المساحة بين الخالق والمخلوق، بحيث يصبحان جوهرا واحدا، ومن ثم يستحيل التجاوز وتسود الحتميات، وتصبح الظواهر ذات بعد واحد، فتسود الواحدية (الروحية والمادية)، بدلا من الثنائية والجدل والتدافع. وبهذا يصل المسيري إلى رفض نهاية التاريخ، بينما ينطلق فوكوياما من نقطة الوصول إليها.

قادت هذه البداية النظرية في التعاطي مع الفكري الصهيوني، قادت المسيري إلى رحلة أوسع قليلا، وذلك حين أصدر بعد ثلاث سنوات (عام 1975) كتابه (موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية)، وكانت بمثابة موسوعة مصغرة عن الفكر الصهيوني. لم يرض هذا الكتاب طموح المسيري، فبدأ يعمل لتطويره. ويوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، كانت عملية التطوير مستمرة، ولم يصح المسيري من الغرق في هذا العمل التطويري إلا بعد ربع قرن من الزمان، ومن خلال موسوعة جديدة من ثمانية أجزاء، أنجزها منفردا، ونشرها عام 1999 بعنوان (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد)، وكانت بذلك عمل عمره، وأصبح المسيري من خلالها أهم باحث ودارس وناقد عربي للحركة الصهيونية والفكر الصهيوني. وبين الموسوعة الموجزة، والموسوعة الكاملة، كان المسيري قد أصدر ستة وعشرين كتابا عن إسرائيل والصهيونية وتفاعلاتهما العربية والعالمية.

ولم ينس المسيري في خضم ذلك كله، أن على المثقف واجبا سياسيا تجاه مجتمعه، وهو الذي استقبل بترحاب، اختيار «الشباب» له أمينا عاما لحركة «كفاية» المعارضة. وهو لم يقبل المنصب فخريا فحسب، بل نزل إلى الشارع وتظاهر وضرب واعتقل، ومن دون أن يسعى إلى تحويل نفسه إلى بطل. لقد مارس موقفه هكذا .. ببساطة.

وقد اعتدنا أن نقول إن غياب المسيري يمثل خسارة لمصر وللعرب وللفكر العربي أيضا، وهو خسارة فعلا من الخسائر التي تفجعنا بها الحياة دائما، ولكن ميزة المسيري وأمثاله، أنهم طرحوا فكرا، وقدموا نماذج جديدة للفهم والتحليل، سيتغذى منها جيل كامل من الشباب العربي، وقد يتأثر بها وينسج على منوالها، بحيث يبقى المسيري حيا فكريا من خلالهم، وتستمر رسالته في مواصلة تأثيرها حتى بعد وفاته، وربما لزمن طويل.

لقد عرفت المسيري شخصيا، وعرفت تواضعه وصلابته، وعاصرت تدفقه في الإنتاج والإبداع. وهو روى لي يوما كيف يتعذب ليكتب جملة واضحة يفهمها الجميع. كان يتطلع لأن يؤثر في من حوله، ولم يتطلع أبدا إلى أن يشار إليه كموضوع يجب أن يدرس لفك طلاسمه، على غرار ما يحدث مع كثير من الفلاسفة والمبدعين. رغم أنه مارس عمله كله بإبداع.. يرحمه الله .