أسطوانة عمرها ربع قرن

TT

في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة أعوام غاب الرئيس الياس الهراوي. كان شجاعاً وظريفاً وعارفاً بأمور الناس والبسطاء، وكنت ضيفاً إلى مائدته مرة أو اثنتين أو ثلاثاً في الأسبوع. وكان يستعيد أمامنا ذكريات السياسة ومسالك السياسيين بصراحة وفراسة ومعرفة.

ترك الرئيس الهراوي حكاية عهده في كتاب وضعه الزميل كميل منسى بعنوان «عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة». من أجل أن نفهم الكثير مما يجري اليوم لا بدّ من قراءة الأحداث والوثائق التي عرضها الرئيس الراحل. لكي نفهم لماذا أصرَّ الجنرال ميشال عون على القول إن الحكومة غير شرعية والبرلمان غير شرعي، لا بدّ من العودة إلى العام 1989. كان يستخدم اللغة نفسها، كل يوم. ولكي نفهم لماذا يحاول عون إسقاط اتفاق الدوحة يجب أن نعود إلى محاولاته لإسقاط اتفاق الطائف وكيف منع النواب من العودة إلى منازلهم.

وعندما أصدر عون في تشرين الثاني 1989 بياناً يعلن فيه أن الحكومة غير شرعية والبرلمان غير شرعي وأن لا شرعية سواه، رد الرئيس الهراوي ببيان رسمي قال فيه: «لم تبق دولة صغرى أو كبرى، صديقة أو شقيقة، إلا تدخلت لدى العماد عون منذ أيلول 1988 حتى اليوم، لكي يكف عن عرقلة قيام المجلس النيابي بواجباته، فكان دائماً صاحب خيار عسكري مدمر وغير مسؤول، ألبسه شعارات السيادة والاستقلال والتوحيد».

كان عون، كما هو الآن، في صراع مع «القوات اللبنانية»، فلما أعلنت هذه قبولها بالطائف والانضمام إلى الشرعية انقض عليها بالفرق العسكرية التي كانت تحت إمرته. وانتهت المسألة بخروج عون من القصر الجمهوري إلى السفارة الفرنسية لاجئاً سياسياً طوال عشرة أشهر. ثم لاجئاً سياسياً في فرنسا طوال 11 عاماً، كلفت الدولة الفرنسية 60 مليون اورو، وانتهت كالعادة بموقف عدائي من عون لحكومة باريس.

تختصر حكاية ربع القرن الماضي بالعداء المعلن من عون على كل رئيس ماروني، بدءاً بالرئيس رينه معوض الذي رفض استخدام القوة لإخراج عون. وقبله كان أمين الجميل هو الذي عين عون قائداً للجيش بعد رفع رتبته. وسرعان ما انقلب عليه ثم أرغمه على تسليمه رئاسة الحكومة «الموقتة». ثم الرئيس الهراوي. ثم جاء لحود وكان الخلاف مطبقاً. وبعد عودة عون حاول لحود أن يقوم بزيارة مجاملة له، فرفض. وحاول حتى اللحظة الأخيرة من مؤتمر الدوحة تعطيل انتخاب الرئيس ميشال سليمان، مكرراً أمام جميع الدول والأمم ما تحدث عنه الرئيس الهراوي العام 1989.

ولا يزال يحاول عرقلة حكومة العهد الأولى. وكل شيء آخر.