الشجاعة المشعليّة

TT

الشجاعة الحقيقية ليست هي أن تقتل أكبر قدر من الناس، بل هي أن تنقذ أكبر قدر من الناس.

الشجاعة ليست هي بامتشاق السيف، ولا بفرد العضلات، ولا ببرم الشوارب، ولا بإطلاق العنان للحبال الصوتية (لتشدو بأعذب) اللعنات والتحديات للآخرين.

الشجاعة ليست مقصورة على الرجل أو المرأة أو القوي أو الضعيف، ولكنها كامنة في (أعماق أعماق) مَن وهب نفسه وضحى بها من أجل الآخرين دون أي مقابل لا دنيوي ولا أخروي ـ وأشدد على (الأخروي) ـ. هذه هي الشجاعة الحقيقية في منطقي، وإذا كنت غلطانا فإنني أسمح لكم أن ترجموني بكل حجارة الكرة الأرضية، وأعدكم أنني لن أعتذر ولن أهرب ولن أتزحزح من مكاني.

وإليكم هذه (الأمثولة) عن الشجاعة الخارقة، التي تتواضع عندها كل شجاعات الفتوّات والقبضايات ومفجرين أنفسهم بالسيارات والأحزمة الناسفة، ولا أنسى بالطبع كل (الدكتاتوريين) في كل مراحل التاريخ وأمم العالم.

إنها مجرّد (مضيفة جوية)، اسمها (ماري فرانكي)، فتاة لا يزيد عمرها على أربع وعشرين سنة، حلوة وقطقوطة، طولها 160 سم ووزنها 55 كيلو، حدث لها حادث في عام 1951 ـ أي أنها لو كانت تعيش بيننا الآن لأصبح عمرها 81 سنة ـ.

كانت تلك الآنسة هي المضيفة الوحيدة في طائرة رحلتها من (نيوجرسي) إلى (بنسلفانيا) وعلى متنها الكابتن ومساعده، و25 راكباً نصفهم تقريباً من المجندين والنصف الآخر من المدنيين، وعند الهبوط (زحطت) الطائرة بالثلوج المنهمرة، وتجاوزت المدرج واقتحمت الأسوار وسقطت في حفرة عمقها تسعة أمتار، وتحطم هيكلها، وبدأ البنزين يتدفق، وارتفعت ألسنة اللهب الأولى.

فتحت ماري باب الطائرة بالقوة، وشاهدت الثلوج تغطي الأرض التي تقع على مسافة مترين ونصف، ولو شاءت لقفزت للخارج دون أن يلومها أحد، ولكنها لم تشأ، بل إنها توجهت بالداخل إلى الركاب الذين يتلوّون في مقاعدهم بعد أن تعقدت أحزمتهم بفعل الصدمة، وأخذت تحررهم وتدفعهم الواحد تلو الآخر، بل إن بعض المجندين من شدة هلعهم وطلبهم للنجاة طرحوها أرضاً وهم يتراكضون.

كانت ميري تصيح بالجميع قائلة: الزموا الهدوء، خذوا الأمور ببساطة، سوف أخرج كل واحد منكم، غير أن الجميع كانوا يتخبطون، بعضهم احترق وبعضهم اختنق، وكانت ميري تسحب النساء والأطفال والرجال كذلك وتقذف بهم للخارج الواحد تلو الآخر. ذهب طلاء أظافرها الجميل عندما كانت تغرس أصابعها في المشابك المعدنية لأحزمة النجاة. وأنقذت بشجاعتها الخارقة تلك أكثر من نصف الركاب.

وبينما كانت في رحلتها (الحادية عشرة) ذهاباً وإياباً من باب الطائرة المفتوح إلى جوف الطائرة المشتعل، غاصت (حبيبتي) ميري وسط الدخان واللهب واتجهت إلى صراخ أم وطفلتيها، فانطلقت الأم وابنتها ذات الأربعة أعوام، بينما حملت ميري الطفلة الصغرى ذات الستة أشهر.. كل هذه المعركة أو (الملحمة) جرت خلال أقل من دقيقتين، بعدها انفجرت الطائرة.

ويُقال إنه بعد أن برد الحطام، وجدوا ميري محتضنة الطفلة وهما متفحمتان. هل هذا يعتبر شجاعة، أم هو ضرب من الجنون؟!

وماذا نقول عن الجنود، وعن الكابتن الطيار ومساعده اللذين كانا أول القافزين الهاربين؟!

لو أنني كنت من ضمن الركاب لقبّلت ميري قبل أن أقفز للخارج، ثم أطلق ساقي للريح، وهذه في نظري هي قمة الشجاعة المشعليّة.