يا للغرابة.. لم يعد نيلسون مانديلا إرهابيا!

TT

هل سمعتم أو قرأتم هذا الخبر شديد الأهميّة ألا وهو أنّ الكونغرس الأمريكي قد أسقط في ساعة متأخرة من ليلة الخميس (26/6/2008) صفة «إرهابي» عن أحد أبرز قادة الكفاح من أجل الحريّة والعدالة في العالم، ألا وهو رئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا! هذا يعني أنّ المناضل نيلسون مانديلا والذي بدأ نضاله مع حزب المؤتمر الوطني ضدّ نظام الفصل العنصري ثمّ أصبح رئيساً لجمهورية جنوب أفريقيا كان مصنّفاً كإرهابي وفق المعايير الرسميّة الأمريكيّة خلال فترة كفاحه من أجل إنهاء نظام التمييز العنصري، وخلال العقود الثلاثة من سجنه، وكذلك خلال سنوات رئاسته وحتى خلال زيارته للولايات المتحدة!

وبدلا من أن يشعر بالعار من صنّفوا المؤتمر الوطني الأفريقي، ورئيسه، وأعضاءه كإرهابيين، وساهموا بزجّ المناضلين من أجل الحريّة في السّجون العنصريّة فإنهم يفاخرون اليوم أنّه وبعد عشر سنوات من الانتصار الذي حقّقه نضال شعب جنوب أفريقيا من أجل العدالة أنهم ما زالوا يحتفظون بأسماء المناضلين ضدّ العنصريّة في قائمة «الإرهابيين» في الولايات المتحدة، وربما في غيرها من الديمقراطيات الغربيّة، وبدلا من أن يشعر كلّ مسؤول في الكونغرس بالعار، وربما بالحرج أو الخجل على الأقلّ، من قرار إدراج مناضلين من أجل الحرية مثل نيلسون مانديلا في قائمة «الإرهابيين» يقول دونالد باين، العضو الديمقراطي بمجلس النواب الأمريكي ورئيس اللجنة الفرعيّة لأفريقيا «إن الموافقة على قانون حذف اسم نيلسون مانديلا وآخرين عملوا بلا كلل لإنهاء نظام الفصل العنصري القمعي والمنافي للإنسانية في جنوب أفريقيا من القائمة الأمريكية لمراقبة الإرهابيين انتصار كبير للعدالة». وأضاف بأن التصويت على القرار يظهر احترام أميركا وتقديرها «لرجل كبير حظي بحب وإعجاب في أنحاء العالم»!

ولكن السؤال هو لماذا وضع الكونغرس هذا المناضل من أجل الحرية والعدالة والذي كما يقول الأمريكيون حالياً بأنه «حظي بحب وإعجاب العالم» على قائمة الإرهابيين؟ وكيف بقي مصنّفاً «إرهابياً» وفق القوانين الأمريكية وهو يناضل من سجنه من أجل الخلاص من نظام يطلق عليه الأمريكيون حاليّاً «القمعي والمنافي للإنسانية»؟ ولماذا تركه الأمريكيون على قائمة «الإرهاب» كل هذه السنوات وهو رئيس لجنوب أفريقيا بعد تحريره من سجنه إثر انتصار شعبه على العنصريّة البيضاء؟ والسؤال الأهم هو: كم عدد المناضلين من أجل الحريّة والعدالة والديمقراطية اليوم، وكم عدد المقاومين للاحتلال الأجنبي والقمع والتعذيب الذين ما زالت أسماؤهم مدرجة في قائمة الإرهابيين الرسمية الأمريكية؟

بعد سبع وعشرين عاماً من الأعمال الشاقة في سجن روبن إيلاند الرهيب أصبح نيلسون مانديلا بزنزانته ذات الرقم 46664 رمزاً لكل المناضلين من أجل الحريّة والكرامة الإنسانية في العالم يرفدهم بالأمل بأنّ نضالهم سيُتوّج بالنصر على أنظمة القمع والاحتلال والاستيطان، وأنّ المستقبل هو لانتصار قيم الكرامة والعدالة مهما طال أمد الظلم والاحتلال. ويقول البعض إن الكونغرس الأمريكي قد اتخذ هذا القرار قبل عيد ميلاد مانديلا التسعين! ولكن السؤال هو هل على المناضلين من أجل الحريّة والعدالة أن يعيشوا حتى عامهم التسعين كي يتفضّل الكونغرس الأمريكي بشطب أسمائهم من قائمة «الإرهابيين»؟ كم من أسماء المناضلين اليوم والأبطال الوطنيين الطامحين للحرية مدرجة بين أسماء «الإرهابيين»؟ وما هي المعايير السياسية واللاأخلاقية التي يحدّد على أساسها الكونغرس تعريفه للإرهاب والإرهابيين؟

إن احتفاء العالم بعيد ميلاد مانديلا التسعين يجب أن يكون فرصة للعالم الحرّ فعلا لوقفة حقيقيّة مع الذات ومراجعة القيم والأسس التي يتم وفقها تصنيف «الإرهابي» كي لا يكون هذا التّصنيف ذريعة بأيدي الطغاة المهووسين بجبروت القوّة الإمبراطوريّة الذين لا يأبهون بمعاناة الشعوب البعيدة، والذين يسارعون إلى تصنيف نضال الشعوب بالإرهاب متى ما كانت هذه الشعوب تكافح ضدّ أنظمة القمع والاحتلال والعنصريّة الصديقة لحكومات الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية الأخرى.

إن تصنيف الكونغرس الأمريكي لمناضلين مثل مانديلا كإرهابيين يؤكّد مرّة أخرى مشاركة قرارات الكونغرس للطغاة في قهر الشعوب وإذلالها. كما أن هذا التصنيف لأهم مناضل ضدّ العنصريّة في العالم، والذي يشمل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي أصدر نظام «الأبارتيد» في جنوب أفريقيا قراراً بحظره منذ عام 1960، يري أن مسألة إلصاق صفة الإرهاب بالمقاومين من أجل الحرية والاستقلال هي مسألة متأصّلة بالنظام الأمريكي المنحاز دوماً وطوال تاريخه للأنظمة القمعية والدكتاتوريّة العسكريّة متى ما كان الطغاة المحليين يخدمون مصالح النهب الأمريكي لثروات شعوبهم، لأن مثل هذا القرار لم ينشأ طبعاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. إذ أن معظم مناضلي أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من أجل الحريّة والديمقراطية والعدالة مثل آرنست تشي غيفارا وسلفادور الليندي وباتريس لومومبا، إلى المناضلين ضد الاستعمار والاستيطان في الهند والجزائر وفلسطين وغيرها، إلى نيلسون مانديلا، قد ألحقت بهم هذه التهمة لثنيهم عن متابعة مقاومة الاحتلال والنهب الاستعماري الأبيض لبلدانهم، ولكنّ الجديد في عالم اليوم، خاصة وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول، هو هذا النفاق الرسمي الكبير الذي يزعم دعم نضال الشعوب من أجل الحرية والعدالة والاستقلال، في حين ما زالت حكومة الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات البيضاء تضع المناضلين وحركات النضال من أجل الحرية على قائمة الإرهاب، بل وتساند غزو بلدان مستقلّة في العالم وتدميرها تحت هذه الذريعة، ودعم استيطان استعماري بغيض في فلسطين بحجّة محاربة الإرهاب ووضع المناضلين من أجل حريّة شعبهم واستقلال بلدهم فلسطين على قائمة الإرهاب. من ناحية المبدأ لا يحق لأي دولة في العالم أن تصنّف البشر الآخرين في أنحاء الأرض كإرهابيين وتعمّم هذه التهمة وكأنها الحقيقة، لأن مثل هذا العمل يجب أن يكون من اختصاص هيئات قضائية تدرس كل حالة ولا تعمّم، أو يتم التصنيف من قبل هيئة دوليّة مشهود لها بالنزاهة والعدالة، وتأخذ بالاعتبار القيم الإنسانية المتفق عليها عالمياً في تعريف الإرهاب. ومن منظور واقعي جداً فإن إدراج اسم نيلسون مانديلا على قائمة الإرهاب، وهو يناضل ضدّ نظام قمعي عنصري بغيض لعشرات السنين، يشكّل فضيحة للنفاق وازدواجيّة المعايير التي تثقل كاهل الأنظمة الديمقراطية الغربيّة، ويجب أن يتوقّف العالم المتحضّر فعلا، والحر فعلا،عندها ويرفض بشكل قاطع قيام الكونغرس الأمريكي بإطلاق التسميات والتّهم وفق المصالح السياسية والآيديولوجية لليمين الحاكم في الولايات المتحدة، وذلك ليبرّر قيام حكومته باستخدام سياسات استعمارية أو شنّ حروبٍ عدوانيّة ضدّ الشعوب الآمنة التواقة إلى الاستقلال والحريّة والكرامة، أو ليبرّر ممارسة أساليب قمعيّة غير شرعية مثل التعذيب في أبو غريب وغوانتانامو والسجون السريّة للمخابرات الأمريكيّة، أو لتبرير سياسة الاغتيالات والإطاحة بالحكومات المنتخبة، كما حصل في فلسطين وقبلها في إيران وتشيلي وغيرهما.

إذا ما أخذنا حالة وجود مناضل مثل نيلسون مانديلا على قائمة الإرهابيين الأمريكية كنموذج عما يجري فعلاً على أرض الواقع نتوصّل بالتأكيد إلى حقيقة مفادها أن الكونغرس الأمريكي وحكومته وحكومات دول غربية أخرى تستخدم توصيف الإرهاب لمحاربة حركات التحرّر العالميّة ولمساندة ودعم أنظمة القهر والاستيطان والاستعمار. والأمثلة أكثر من أن تُحصى. وإلا فكيف يسكت العالم برمّته عن إيداع عزيز الدويك، رئيس البرلمان الفلسطيني وخمسة وعشرين من رفاقه في سجون الاحتلال الإسرائيلية بعد أن انتخبهم الشعب الفلسطيني في انتخابات ديمقراطية شهد الرئيس كارتر بنزاهتها ومصداقيتها؟ ومن هذا المنظور يمكننا فهم قرارات الكونغرس وحكومات بعض الدول الغربيّة التي ترفع هذا الاسم عن قائمة الإرهاب وتضع إسماً آخر على القائمة! ومن هذا المنطلق يمكننا أيضاً قراءة كل القرارات، والتصريحات، وفهم السياسات الغربية المتّخذة ضدّ الشعب العربي في فلسطين وسورية والسودان والصومال ولبنان. ولا شكّ أنّنا سوف نتوصّل إلى الاستنتاج عينه الذي بدأنا به وهو أن الإعلان عن رفع اسم مانديلا عن قائمة «الإرهابيين» التي يصدرها الكونغرس الأمريكي هي فضيحة لقيم ولسياسات أدّت إلى وضع اسمه على هذه القائمة، وهي فضيحة للنظم التي تدّعي دعمها للنضال من أجل الديمقراطية والحرص على حقوق الإنسان. وعلينا جميعاً أن نتذكّر ما ردّدته الشاعرة لي بوما شيل من جنوب أفريقيا في وجه التمييز العنصري: «أنت وأنا نحن الذين نحافظ على الحلم»! وعلينا جميعاً أن نحافظ على حلم تحقيق العدالة في العالم. لنحلم معاً بتحقيق الحريّة والكرامة المتساوية لجميع بني البشر بعيداً عن النفاق اللاأخلاقي والابتزاز السياسي والمعايير المزدوجة التي نشرت البشاعة في عالم اليوم.

www.bouthainashaaban.com