معنى الرابع من يوليو؟!

TT

شاءت الأقدار أن أكون في باكر صباح الرابع من يوليو الجاري في سيرة تاكسي متجها إلى مطار «لوغان» بمدينة بوسطون الأمريكية لكي استقل الطائرة إلى نيويورك للمشاركة في مناسبة اجتماعية؛ وفاجأني السائق «التايلاندي» العجوز في نهاية الرحلة عندما تمنى لي عيدا سعيدا للرابع من يوليو. ساعتها تنبهت إلى كل الأعلام الأمريكية التي تغطي المنازل، وبأحجام كبيرة للمباني الحكومية، بل كانت خارجة من عربات خاصة أو ملتصقة بها بأشكال شتى. وفي المطار نفسه كان العلم بألوانه منتشرا بين العاملين في المطار، واستخدمه بعض الرجال في أربطة العنق، والنساء في ربطات الشعر، أما الغالبية فقد وجدت في علم صغير مثبت على ياقة «الجاكت» ما يكفي للتعبير عن العيد. وفي كل الأحوال وسواء عند شراء إفطار الصباح أو الانتهاء من إجراءات السفر لم يفشل أحد قط في أن يتمنى يوما سعيدا للرابع من يوليو.

كان كل ذلك في بوسطون التي علمت أنها كانت تستعد استعدادا خاصا بحفلات عظمى للموسيقى الكلاسيكية والشعبية وعروض معارك الاستقلال والثورة التي عاشتها أمريكا وشهدت مولد الولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من يوليو عام 1776 والتي شهدت المدينة بعضا من فصولها حيث كانت من الولايات الثلاث عشرة المؤسسة لما عرف بعد ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية. أما عندما صار الأمر في نيويورك فقد صار أضعافا مضاعفة من احتفالات الشوارع إلى سفن الميناء إلى ـ بالطبع ـ تلك الهالة الهائلة من الأضواء الواقعة على تمثال الحرية الشهير. ولما كان فندقي واقعا وسط المدينة العملاقة، ومطلا على ميدان «ماديسون سكوير غاردن» فقدت شاهدت أمواجا من الأمريكيين تحتفل بالمناسبة حتى ظهر فجر اليوم التالي.

والحقيقة أنه لم تكن هذه هي المرة الأولى التي شاهدت فيها احتفالات الرابع من يوليو في الولايات المتحدة، فقد شاهدتها طالبا في مدينة شيكاغو خلال السبعينيات من القرن الماضى، كما شاهدتها باحثا وخبيرا في الثمانينيات من ذات القرن في واشنطن العاصمة عندما عملت في مؤسسة «بروكينغز». ومع تعدد المدن والمواقع كان المشهد والتقاليد واحدة من أول الأعلام والمواكب والحفلات الموسيقية وحتى ولائم الشواء في الحدائق المفتوحة، وتجرى كلها من خلال مواطنين يحتفلون كل على طريقته بيوم هام استقل فيه بلدهم وأصبحت دولة مستقلة؛ وأظن أن جرعة الاحتفال زادت قليلا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حتى ولو لم يأت على ذكرها أحد.

ولكن ما حدث بين بوسطون ونيويورك أثار في الذهن عما إذا كانت تجرى مثل هذه الاحتفالات بيوم الاستقلال في الدول العربية المختلفة. ولا أقصد هنا بالطبع أن يقوم رئيس الدولة بإلقاء بيان تهنئة إلى الأمة بالعيد الذى ولدت فيه الدولة وأصبحت «وطنا» لشعب تجمع فيها؛ ولكن ما أقصده أن يشعر المواطنين أن هناك حاجة إلى الاحتفال، كما يحدث في الاحتفالات الدينية لنهاية شهر رمضان المعظم أو في عيد التضحية بعد انتهاء موسم الحج، أو حتى كما يحدث في بعض البلدان بمولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو حتى بالكريسماس كما يحدث في العديد من العواصم العربية مثل بيروت والقاهرة. وفي حدود العلم فإن ذلك لا يحدث إلا في القليل من البلدان العربية وفي حدود رسمية أكثر منها شعبية؛ بل ان ما كان يحدث فيها ظل يتناقص ويتآكل عبر الأيام وكأن الاستقلال لم يحدث قط. وفي مصر اعتدنا أن تكون هناك احتفالات ضخمة بعيد الجهاد في 8 مارس من كل عام والذي يعيد التذكير بثورة 1919 واستقلال مصر اعتبارا من انتهاء الحماية البريطانية عليها وفقا لتصريح 28 فبراير 1922، ولكن هذا الاحتفال انتهى بعد ثورة يوليو «المجيدة» في 23 يوليو 1952 وبدأت احتفالات أخرى ما لبثت أن تلاشت هي الأخرى حتى تم بعثها في احتفالات السادس من أكتوبر تذكرة بمعركة العبور في عام 1973 ثم بعد وفاة الرئيس السادات لم يبق من الاحتفال إلا خطاب لرئيس الجمهورية وزيارة منه إلى قبر الجندي المجهول ويعرض التلفزيون واحدا من الأفلام القليلة عن الحرب. وربما كان التراجع عن كل هذه الاحتفالات سببا في أن الكاتب الصحفي أحمد المسلماني تساءل في مقال بصحيفة «المصري اليوم» عن اليوم الذى يمكن اعتباره عيد الاستقلال المصري؟! وفي مقابلة تلفزيونية لي مع الدكتور عصام العريان ـ أحد أقطاب الإخوان المسلمين في مصر ـ سألته عن اليوم الذى يعتبره يوم الاستقلال المصري كانت إجابته أن هذا اليوم لم يأت بعد؛ وما فهمته أن يوم الاستقلال لن يأتي إلا عندما تصير مصر جمهورية إسلامية من نوع ما!

ومن المرجح أن ما جرى في مصر حدث في بلدان عربية أخرى حيث جرى دفن الدولة بشكل أو بآخر في الذاكرة الجماعية للناس، ومعها جرى دفن الروابط التي جعلتهم يتجمعون في المقام الأول هم وأولادهم داخل أرض بعينها أصبحت هي وحدها من غير كل أراضى العالم تسمى وطنا له رموز وأعلام وتواريخ وأبطال ولحظات انتصار وأيام هزيمة، أو ما يسمى بالتجربة الجماعية والذاكرة المشتركة. وفي العادة فإن الناس في عموم الأرض تجمعهم روابط مختلفة من قبيلة أو طائفة أو مذهب ديني، ولكن الرابطة في الوطن أمر آخر تماما لأنه يعنى موقفا وموقعا من الآخر خارج الحدود، وهى رابطة لها أعلامها ورموزها التي تحتمل درجات من التبجيل وأحيانا التقديس.

كل ذلك جرى دفنه والتخلي عنه تدريجيا في البلدان العربية المختلفة، وقد لعبت الدولة ذاتها دورا في هذه المسألة عندما تحولت إلى التجسيد في أشخاص قادتها حتى فقدت معنى وجودها كظاهرة جماعية لأفراد تجمعوا في وطن واحد. ولعب التيار الإسلامي دورا هائلا في عملية استئصال الوطن من العقل الجماعى للمواطنين حينما حلت «الأمة» الإسلامية مكان كل الأوطان. وربما لم تكن هناك صدفة أن الإسلاميين في مصر من جماعة الإخوان المسلمين كان همهم الأول في المدارس التي يدرسون فيها منع تحية العلم باعتباره نوعا من الممارسات الوثنية. وربما لم يسترد العلم بعضا من أهميته ورمزيته لكثير من الدول العربية إلا مع مباريات كرة القدم التي أصبحت المنافسة فيها أول التعبيرات عن «الهوية» و«الوطنية» التي بقيت من عملية استئصال تدريجية جرت عن عمد خلال العقود الماضية. وكان ثمن هذا الاستئصال عاليا وفق كل المعايير، فالوطنية التي تعبر عنها هذه الاحتفالات وتحولها إلى نوع من التقاليد التاريخية للبلدان المختلفة تكشف من ناحية عن حب وولاء للدولة من ناحية، واستعداد لأداء الواجب إزائها من ناحية أخرى. وفي العادة فإن مثل هذا الإحساس بالوطنية هو الذى يعطي للدولة تماسكها ويربط بين أجزائها وجماعاتها المختلفة. وبصراحة فإنه لو كان موجودا داخل الجماعة الفلسطينية لما جرى التمرد الذى جرى في غزة على السلطة الوطنية الفلسطينية؛ بل ولم يكن التمرد الذى يجري الآن على عملية التهدئة في غزة من خلال إطلاق الصواريخ لفض الهدنة سوف يكون له وجود لو أن الوطنية الفلسطينية الجماعية غلبت على المصالح الفلسطينية الضيقة.

رسالة المقال في النهاية أن الدول العربية المختلفة في حاجة إلى إعادة الإحساس بالدولة وتقوية النزعة الوطنية مرة أخرى؛ ورغم أنه يوجد في مثل هذا قدر من استعادة الماضي وأمجاده أحيانا؛ إلا أن الدولة هي أيضا مشروع للمستقبل حيث توجد المصالح المشتركة للأبناء والأحفاد. والحقيقة أنه لا يوجد عار في ذلك، ولا هو انتقاص من روابط واحتفالات أخرى تخص أعيادا دينية أو حتى إثنية أو عرقية لأن الاحتفال بالوجود في وطن واحد ودولة واحدة يكون أحيانا احتفالا بالتنوع والتعايش والمصلحة المشتركة والانتماء إلى مجموعة من الرموز والنظم السياسية والاقتصادية المشتركة، والصفة الواحدة أمام العالم الخارجي، وفي النهاية هو الحماية من الانشقاقات وربما الحروب الأهلية. ومهما تنوع العراقيون في داخلهم فإنهم كلهم أمام العالم عراقيون بنفس الدرجة التي كان فيها التنوع في الولايات المتحدة معبرا عن حالة «أمريكية» خاصة، أو التنوع في الهند معبرا عن حالة «هندية» متميزة. لقد آن أوان بعث الدولة العربية وإدراك استقلالها وأسباب وجودها مرة أخرى!